حرية – (25/5/2022)
حالة من الترقُّب المستمر الممزوج بالقلق تسيطر الآن على جميع دول العالم، من جرَّاء اندلاع مفاجئ لمرض نادرًا ما يظهر خارج إفريقيا، وقد بدأت حالة القلق هذه في الانتشار بعد أن رصدت السلطات الصحية في دول أوروبا وأمريكا وأستراليا وكندا عددًا من حالات الإصابة بمرض “جدري القرود” الفيروسي خلال الأيام الأخيرة؛ فهذه هي المرة الأولى التي ينتشر فيها المرض بين أشخاص لم يسبق لهم أن سافروا إلى إفريقيا.
ويراقب مسؤولو الصحة في جميع أنحاء العالم احتمالات ظهور المزيد من تلك الحالات التي جاءت غالبيتها بين فئة الشباب، إلا أنه جرى في الوقت ذاته تأكيد أن “المخاطر لا تزال منخفضةً فيما يتعلق بعامة السكان”.
ما الأعراض وكيف يتم علاجها؟
ينتمي جدري القرود إلى عائلة الفيروسات نفسها المسببة للإصابة بمرض الجدري المعروف، ولكنه يسبب أعراضًا أكثر اعتدالًا؛ إذ يعاني معظم المرضى من الحمى وآلام الجسم والقشعريرة والتعب، وقد يطور الأشخاص المصابون، بمستوى أكثر خطورةً للمرض، طفحًا جلديًّا وبثورًا على الوجه واليدين يمكن أن تنتشر إلى أجزاء أخرى من الجسم.
وتبلغ فترة حضانة الفيروس (وهي الفترة الفاصلة بين مرحلة الإصابة بعدواه ومرحلة ظهور أعراضها) المسبب لهذه الإصابات من حوالي خمسة أيام إلى ثلاثة أسابيع، ويتعافى معظم الناس في غضون أسبوعين إلى أربعة أسابيع دون الحاجة إلى دخول المستشفى، لكن يمكن أن يكون جدري القرود قاتلًا بنسبة تصل إلى واحد من كل 10 أشخاص، كما يُعتقد أنه يكون أكثر حدةً عند الأطفال والحوامل ومَن يعانون ضعف المناعة.
وتقسم مرحلة العدوى إلى فترتين على النحو التالي:
فترة الغزو: وتتراوح من لحظة الإصابة إلى 5 أيام، وأبرز سماتها الإصابة بحمى وصداع مبرح وتضخّم العقد اللمفاوية والشعور بآلام في الظهر وفي العضلات ووهن شديد.
فترة ظهور الطفح الجلدي: ويكون في غضون مدة تتراوح بين يوم واحد و3 أيام عقب الإصابة بالحمى، ومن أبرز سماتها ظهور الطفح الذي يبدأ على الوجه، في أغلب الأحيان، ومن ثم ينتشر إلى أجزاء أخرى من الجسم، ويكون الطفح أشدّ ما يكون على الوجه (في 95% من الحالات) وعلى راحتي اليدين وأخمصي القدمين (75%)، ويتطوّر الطفح في حوالي 10 أيام من بقع ذات قواعد مسطّحة إلى حويصلات صغيرة مملوءة بسائل، وبثرات والمرحلة التي تليها من تطور، وقد يلزمها ثلاثة أسابيع لكي تختفي تمامًا.
وقبل ظهور الطفح، قد يُصاب بعض المرضى بتضخّم كبير في العقد اللمفاوية، وهو سمة لجدري القردة تميزه عن سائر الأمراض المماثلة.
وغالبًا ما يتم إعطاء الأشخاص المعرضين للفيروس واحدًا من عدة لقاحات ضد الجدري، التي ثبت أنها فعالة ضد جدري القرود أيضًا، كما يجري تطوير أدوية مضادة للفيروس، وقد أوصى المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض ومكافحتها، يوم الخميس الماضي، بعزل جميع الحالات المشتبَه فيها وتقديم لقاح الجدري للمخالطين ذوي الخطورة العالية.
طبيعة المرض والفيروس
وجدري القردة مرض فيروسي نادر حيواني المنشأ، إذ ينشأ في الحيوانات البرية مثل القوارض والرئيسيات، ويُنقل أحيانًا من الحيوانات إلى الإنسان، واكتُشفت أول إصابة بشرية معروفة في عام 1970، لطفل يبلغ من العمر 9 سنوات، يسكن في منطقة نائية من الكونغو.
وعلى الرغم من استئصال الجدري منذ عام 1980، إلا أن جدري القردة لا يزال يظهر بشكل متفرق في بعض أجزاء قارة أفريقيا، وقد كُشِف لأوّل مرّة عن الفيروس في عام 1958 بالمعهد الحكومي للأمصال في كوبنهاغن، بالدانمرك، في أثناء التحرِّي عن أحد الأمراض الشبيهة بالجدري في قرود للأبحاث، ومنذ ذلك الحين، طفا على السطح اسم (جدري القرود).
وأُبلغ في خريف عام 2003 عن وقوع حالات مؤكّدة من جدري القردة في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت هذه أولى الحالات المُبلّغ عنها للإصابة بالمرض خارج نطاق القارة الأفريقية، و”تبيّن أن معظم المصابين به كانوا قد خالطوا كلاب البراري الأليفة مخالطةً حميمة”.
كما اندلعت في عام 2005 فاشية لجدري القردة في ولاية الوحدة بالسودان، وأُبلِغ عن وقوع حالات متفرقة في أجزاء أخرى من القارة الأفريقية، ولم تكن هذه هي الحالات الأخيرة التي يُبلغ عنها، إذ أُبلغ أيضًا عن حالتين للإصابة به في عام 2009، في أوساط اللاجئين الوافدين من جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى جمهورية الكونغو، في حين حدثت 26 حالة إصابة وحالتا وفاة في إطار اندلاع فاشية أخرى للمرض بجمهورية أفريقيا الوسطى في الفترة بين أغسطس وأكتوبر 2016.
ما هي مظاهر الاختلاف هذه المرة؟
إنها المرة الأولى التي ينتشر فيها جدري القرود بين الأشخاص الذين لم يسافروا إلى إفريقيا، كما تشمل معظم الحالات رجالًا مارسوا الجنس مع رجال، في أوروبا، جرى الإبلاغ عن إصابات في كلٍّ من بريطانيا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا والسويد، كما أبلغ مسؤولون أمريكيون الأربعاء الماضي عن حالة إصابة لرجل سافر مؤخرًا إلى كندا، ومن جانبها أكدت وكالة الصحة العامة الكندية عن حالتين، كما أعلن مسؤولو الصحة في كيبيك، في وقت سابق، عن أنهم يشتبهون في وقوع 17 حالة في منطقة مونتريال.
وكان مسؤول صحي أوروبي رفيع المستوى قد حذر يوم الجمعة من أن حالات الإصابة بالفيروس النادر قد تتسارع خلال الأشهر القليلة المقبلة، وقال هانز كلوج، المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في أوروبا: “مع دخولنا فصل الصيف… ومع التجمعات الجماهيرية وبخاصة في المهرجانات والحفلات، أشعر بالقلق من أن انتقال العدوى يمكن أن يتسارع”، ويصف “كلوج” الانتشار بأنه “غير نمطي”، مضيفًا أن “جميع الحالات الحديثة باستثناء حالة واحدة فقط ليس لها سجل سفر ذي صلة بالمناطق التي يتوطن فيها جدري القردة”، وأوضح: يبدو أن انتقال العدوى ربما كان مستمرًّا لبعض الوقت، حيث تنتشر الحالات جغرافيًّا في جميع أنحاء أوروبا وخارجها.
هل ينتشر جدري القرود عبر الجنس؟
هذا أمرٌ محتمل، لكنه غير واضح تمامًا في الوقت الحالي؛ إذ لم يجرِ توثيق انتشار جدري القرود من قبل عبر ممارسة الجنس، ولكن يمكن انتقاله عن طريق الاتصال الوثيق مع الأشخاص المصابين، وتبادُل سوائل أجسامهم وملابسهم أو الاحتكاك بملاءات سرير واحد يجمع بينهم، وحذر “كلوج” من أن انتقال العدوى يمكن أن تعززه حقيقة أن “الحالات التي يتم الكشف عنها حاليًّا هي من بين أولئك الذين يمارسون نشاطًا جنسيًّا”، وأوضح أن معظم الحالات الأولية المكتشَفة للمرض كانت بين الرجال الذين مارسوا الجنس مع رجال ويسعون للعلاج في عيادات الصحة الجنسية، ومن جانبها، أعلنت منظمة الصحة العالمية (WHO) أنها تحقق في حقيقة أن العديد من الحالات المبلغ عنها كانت لأشخاص مثليين أو ثنائيي الجنس أو رجال يمارسون الجنس مع رجال.
في السياق ذاته، قال مايكل سكينر -عالِم الفيروسات في إمبريال كوليدج لندن- في تصريح له عبر بيان صحفي جرى الاطلاع عليه: “بطبيعته، ينطوي النشاط الجنسي على اتصال حميم، ما يُتوقع له أن يزيد من احتمالية انتقال العدوى، بغض النظر عن التوجه الجنسي للشخص وبغض النظر عن طريقة انتقال العدوى”، ويؤكد فرانسوا بالوكس -من جامعة كوليدج لندن- أن الجنس يُعَدُّ نوعًا من الاتصال الوثيق اللازم لنقل المرض، ولكنه يؤكد أن حالات المملكة المتحدة “لا تعني بالضرورة أي تغيير حديث في مسار انتقال الفيروس”.
الحد من خطورة المرض
مع غياب العلاج وعدم وجود لقاح محدّد لمكافحة المرض، فإن الوسيلة الوحيدة للحد من الإصابة به هي رفع الوعي بعوامل الخطر المرتبطة به واتخاذ التدابير التي يمكنها الحد من معدل التعرّض له، وعلى مستوى الدول والمنظمات المعنية، لابد من تطبيق إجراءات الترصد والإسراع في تشخيص الحالات الجديدة. كما ينبغي أن تركِّز رسائل التثقيف بشأن المرض على أمرين:
أولا- ضرورة تجنّب المخالطة الجسدية الحميمة للمصابين بالمرض، مع ارتداء القفازات اليدوية عند الاعتناء بالمرضى، وضرورة المداومة على غسل اليدين.
وثانيا- الحد من مخاطر انتقال الفيروس من الحيوانات الحاملة له إلى البشر، وضرورة طهي كل المنتجات الحيوانية جيدا قبل أكلها.