حرية – (28/7/2022)
لوحة “الفتاة ذات القرط اللؤلؤي” للرسام الهولندي يوهانس فيرمير الذي برع مواطنه هان فان ميغرين في تقليد أعماله (متحف الفن الهولندي)
التقليد ممارسة ظلت تروج وسط البشر على مدى تاريخهم، لأن للحياة المجتمعية نفسها قوانين تُتبع وقنوات للسلوك المقبول تسمى أولاً العرف ثم التقاليد. وكالعادة فثمة نفر يرقون بالأشياء إلى مستويات تجعلهم في نخب معينة شبه مغلقة إذ لا تفتح عضويتها للجميع. ومن هؤلاء على سبيل المثال الفنانون الموهوبون (دون غيرهم) في الرسم والتلوين و/أو النحت و/أو الزخرفة بمختلف أشكالها.
وكما هي الحال مع عديد من الأنشطة المشروعة فثمة من يضيف عنصراً خارجاً عن قوانين الحياة المجتمعية وقنواتها الواضحة المحددة فيحيلها أنشطة تحت أرضية أو “غير مشروعة”. والحديث هنا عن أولئك الذين أوتوا قدرة على تقليد أعمال المشاهير الفنية إلى حد أن الناظر لا يقوى على التمييز بينها وبين الأصلية. وحتى هنا فلا جناح على أحد، ولصاحب العمل الأصلي أن يفرح ويفخر لأن التقليد هو أرقى أشكال الثناء.
المشكلة تتأتى حين تتحول القدرة على التقليد إلى سرقة بمعنى أن يدعي المقلد أن العمل المزيف إنما هو إنجاز فنان شهير معين وينسبه إليه بوسائل من ضمنها مثلاً إخضاع وسائل الإنتاج كالألوان والسطح (من ورق أو كانفا أو غيرها) للتقادم المصطنع، وتقليد توقيع الفنان الأصلي مثلاً. وبالطبع فالغرض من وراء كل هذا هو أن يثري المقلد من بيع عمل مزيف منسوب إلى فنان تُشترى أعماله الفنية بمبالغ خرافية سواء في الفاخر من غاليرهات البيع أو دور المزادات العلنية. وفقط انظر إلى أن أعمال فان غوخ ومونيه وبيكاسو تباع اليوم بعشرات (إن لم يكن بمئات) ملايين الدولارات ولكن… من يضمن أنها أصلية؟
وعلى الرغم من أن هذا النوع من الأنشطة الفنية جريمة (كونه سرقة في آخر المطاف) يحاول القانون مكافحتها بعقوبات قد تصل إلى سنوات طويلة وراء القضبان، فقد طفت إلى السطح أسماء مزورين بلغت مواهبهم في التقليد الدقيق حد اعتبارها “عبقرية فنية” بحد ذاتها. والتاريخ يعج بهؤلاء، لكن منهم من اشتهر على نطاق العالم بسبب غزارة إنتاجه ودقته ولأنهم خدعوا وضحكوا على من يُسمون “الخبراء” فجنوا ثروات من أعمالهم المنسوبة زيفاً إلى كبار الفنانين، ومن هؤلاء:
مايكل أنجلو (الموسوعة البريطانية)
ميكيلانجلو Michelangelo
نعم، ميكيلانجلو نفسه (1475- 1564)، فنان عصر النهضة الإيطالي الذي أنزله التاريخ في مقام لا ترقى إليه سوى قلة قليلة من أمثال دافنشي ورافائيل، غمس أصابعه في مستنقع التزوير فقبل أن يُقذف إلى أعالي آفاق الشهرة، مع تزيينه سقف سيستينا أكبر كنائس الفاتيكان على مدى خمس سنوات، عانى ميكيلانجلو (أو مايكل أنجلو تبعاً للنطق الإنجليزي) الأمرّين ليكسب قوته من أعماله. فقرر توظيف مواهبه للربح السريع بتزوير التماثيل الأثرية الإغريقية والرومانية التي كانت مطلوبة بشدة وسط أثرياء العصر. وحدث هذا بعدما تحداه نحات منافس أن ينتج تمثالاً “أثرياً”، فنحت التمثال ودفنه في تربة حمضية فترة من الزمن قبل أن يخرجه بسمات الآثار. فاشتراه راعيه الكادينال رافائيل رياريو بمبلغ هائل قبل أن يكتشف أن الأمر كله خدعة بيد ميكيلانجلو. لكن انبهاره بعظمة هذا الإنجاز نفسه منعه من معاقبته. وبلغ من إعجاب الناس بهذا العمل المزيّف أن اعتبر عملاً فنياً عظيماً في حد ذاته حتى أنه عُرض وقتها مع مجموعة من التماثيل الإغريقية العائدة للقرن الرابع. وفي وقت لاحق اشتراه تشارلز الأول ملك إنجلترا وعرضه في قصر وايتهول حتى دمره حريق في 1698.
إيلمير دو هوري
إيلمير دو هوري Elmyr de Hory
يعد هذا الفنان الأميركي – المجري البارع (1909 – 1976) بين أشهر المزورين في القرن العشرين إذ تمكن من بيع ما يربو على ألف قطعة عرضت في أشهر الغاليريهات والمتاحف. وبلغ من تأثير نشاطاته غير المشروعة أنه ألهم الممثل والمخرج الأميركي أورسون ويلز لإنجاز فيلمه الشهير F is for Fake (فلنترجمه “م تعني مزيفة”) إضافة إلى عديد من الأفلام التلفزيونية الوثائقية التي تتناول حياته الثرة. ولم يكتف دي هوري بتزييف الأعمال الفنية بل خلق لنفسه شخصيات وهمية عدة فلا يُكتشف أمره ولا يدري أحد مع أي شخصية منها يتعامل. وبلغ من براعة أعماله المزيفة أن عدداً من المؤرخين والنقاد والناشرين ضمنوها في مختلف الكتب عن الفنون الجميلة. وبسبب قدراته الفنية العالية، تخصص في تزييف لوحات موديلياني وبيكاسو وماتيس ورنوار وكبار فناني العصر وجمع من ورائها ثروة هائلة حتى أنه استرعى انتباه مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي “أف بي آي” و”الإنتربول”. وعندما ضاق عليه الخناق خلال إخضاعه للمساءلة في إسبانيا وأيقن من ترحيله إلى فرنسا لمواجهة العدالة اختار الانتحار. وأثار موته موجة حزن عالية بسبب براعته كفنان قادر على مضارعة عباقرة الريشة والألوان عبر القرن العشرين.
هان فان ميغرين
هان فان ميغرين Han Van Meegren
بدأ هذا الهولندي (1889 – 1947) مهنته الفنية كأي رسام آخر. وعلى الرغم من موهبته الواضحة فقد أُحبط لأن معاصريه النقاد لم يصنفوه في المرتبة السامية التي كان يؤمن بأنه ينتمي إليها. فصمم على “الانتقام” منهم وشرع في تزوير الأعمال الفنية في الحقبة الممتدة من القرن السابع عشر حتى العشرين، مركّزاً بشكل خاص على أعمال مواطنه يوهانس فيرمير (صاحب اللوحة الشهيرة “الفتاة ذات قرط اللؤلؤ”). وكان يبلغ قمة النشوة بعدما يشهد احتفاء النقاد بعمل ما قبل أن يكشف لهم أنه مزور بريشته ويتركهم في حرج عميق. على أن جمال تزويره بلغ حد أنه قرر الامتناع عن رفع النقاب عن الحقيقة فتهافت عليها أولاً أثرياء بلاده ثم بعد احتلالها خلال الحرب العالمية الثانية، كبار رموز النظام النازي المحتل. بل وصل به الأمر حد أنه قدم لأدولف هتلر نسخة من كتاب سيرة حياته بإهداء شخصي مدفوعاً بالطمع في مزيد من المال وليس ولاء له. ولم يخف هذا الفنان تزويره بل كان يتفاخر بأن أعماله “أفضل من الأصل” كونه “يصحح” الأخطاء التكنيكية والكتل والمساحات ودرجات الألوان. وقاده تزوير أعمال فيرمير إلى الوقوف أمام القضاء متهماً أيضاً بالتعاون مع النازي. فاستطاع تفنيد هذه التهمة الأخيرة لكنه رمي في السجن سنةً بتهمة تزوير الأعمال الفنية.
إريك هيبورن
إريك هيبورن Eric Hebborn
عانى هذا الإنجليزي اللندني (1934 – 1996) من حياة عسيرة منذ طفولته لأن والدته كانت تعاقبه بالضرب يومياً. ولاحقاً قال في كتاب سيرته إنه أدخل سجن هارولد وود الإصلاحي (بعدما تسبب عمداً في حريق التهم مدرسته الابتدائية) حيث تسنى له الوقت لصقل موهبته الفنية الواضحة للعيان. ولاحقاً بدأ مهنته الفنية في صيانة وتجديد لوحات المتاحف والغاليريهات والأفراد. وفي هذه الفترة اكتشف مقدرته على تقليد أساليب المشاهير من عصر النهضة أمثال فان دايك وروبينز وكاتسيليوني. فمضى في هذا الاتجاه وأصاب بفضل موهبته الخارقة نجاحاً سهّل له فتح غاليري لبيع أعماله المزورة لقاء آلاف الجنيهات. ولم يقتصر نشاطه على ذلك بل تمكن من بيع أعمال عبر أشهر دارين للمزادات هما سوذبي وكريستي اللندنيتان. وكما هو متوقع قاده هذا الطريق إلى وقوفه أمام القضاء، فلم ينكر التهمة بل ألف كتاباً في السجن عن حياته كمزور وكشف فيه أن عديداً من النقاد وتجار الفن كانوا يعلمون بالحقيقة لكنهم صاروا متآمرين معه سعياً وراء الأرباح العالية التي كانت أعماله المزورة تعود بها.
توم كيتينغ
توم كيتينغ Tom Keating
ثمة أوجه شبه عديدة بين الإنجليزي توم كيتينغ (1917 – 1984) ومواطنه إريك هيبورن. فكلاهما بدأ حياته الفنية بصيانة وتجديد لوحات المتاحف والغاليريهات والأفراد، قبل أن يكتشف موهبته في تزويرها بدقة عالية وينتهي به المطاف لكشف النقاب عن أساليب خداعه والطمع الذي يدفع بمن حوله من النقاد وتجار الفنون للسكوت عن نشاطه. أما اختلافه عن هيبورن فيأتي في شكل تبريره نشاطه غير المشروع إذ كتب، “من المخزي أن نرى كيف عاش عديد من عظماء الفنانين وماتوا في فقر مدقع. وتجد أن هؤلاء خضعوا خلال حيواتهم للاستغلال البشع من لدن تجار الفن الذين لم يكتفوا بذلك بل مضوا للإثراء من أعمالهم بعد موتهم”. وبناء على ذلك، كما قال، فقد قرر أن “التزوير هو الوسيلة الفضلى للهجوم على مؤسسة الغاليريهات وعلى الخبراء وهذه الصناعة بمختلف وجوهها”.
في 1970 سلطت صحيفة “تايمز” اللندنية في مقال تحقيقي لها الضوء على كيتينغ واتهمته بتزوير ما لا يقل عن ألفي لوحة لفنانين مشاهير. وقاد هذا إلى مراقبته من قبل اسكوتلايارد وإخضاعه للمساءلة حتى اعترف فألقي القبض عليه في 1979 مع خليلة سابقة له تدعى جين كيلي. وعلى الرغم من أنها سجنت فقد استطاع كيتينغ نفسه تفادي الحبس لأنه تعرض لحادث مرور أنزله فترة طويلة في المستشفى حتى أسقطت عنه العقوبة. وبرفع الستار عن أعماله المزيفة بدأ المال “المشروع” ينهمر عليه لأن هواة الفن تسابقوا إليها في ما بين 5 إلى 10 آلاف جنيه للوحة الواحدة.
باي – شين كيان
باي – شين كيان Pei-Shen Qian
كمعظم المزورين في العالم بدأ هذا الصيني حياته المهنية في السبعينيات رساماً ذا موهبة واضحة لكنه عانى من إهمال النقاد وتجار الفن لأعماله. فقرر (مثل معظمهم أيضاً) أن يستغل موهبته في التزوير لعلمه أن المال الذي سيعود عليه سيكون أضعاف مبيعاته من أعماله الأصلية. وقاده هذا الدرب لشراكة محرمة مع “أم نودلر آند كو”، وهو إحدى أكبر غاليريهات نيويورك (من 1846 حتى 2011 عندما أغلقها القضاء بعد إدانتها بالتورط في أعمال الغش والخداع).
وكان باي – شين قد بدأ نشاطه غير المشروع بإنتاج لوحات مزيفة لعظماء أمثال ماتيس وأندريه ديران. وخلال حياته في الولايات المتحدة، حيث نال الجنسية الأميركية أنتج أكثر من 40 عملاً مزوراً لكبار الأسماء أمثال جاكسون بولوك ووربرت موذرويل. وكان يتلقى من عميل فني له نحو 10 آلاف دولار، فيبيعها هذا الأخير بملايين الدولارات لتلك الغاليري النيويوركية التي تبيعها بدورها بأضعاف هذه المبالغ. ويشاع أن أعماله المزورة بيعت بما يربو على 80 مليون دولار، وكان في هذا وحده شهادة على قدرته كرسام لا يقل شأناً فنياً عن اولئك الذين يزور لوحاتهم. وعندما علم بأنه يجني فتات المائدة فقط من أعماله المزورة، صار يطلب أسعاراً عالية حقاً وصار له ما أراد. ولكن كالعادة في معظم هذه الحالات فقد فُضح أمره مع تحقيقات “أف بي آي” في أنشطة “أم نودلر آند كو”، لكنه اختفى قبل أي يطرق عملاؤه باب داره وهرب إلى موطنه الأصلي. وتبعاً لحوار أجري أخيراً مع زوجته فإن هذا الفنان الذي دخل عقده الثامن يعيش حالياً في ضواحي شنغهاي ويعمل بلا ضجيج في استوديو صغير له، لكنه يمتنع عن بيع أعماله.