حرية – (4/8/2022)
رعد أطياف
واحد من كوابيس العراق المقبضة : إن الجمهور لا يعرف وظيفته بشكل واضح؛ هل هو جمهور ديني أم سياسي؟ بمعنى هل هو جمهور يتلمس الخلاص الروحي من خلال اتباع قياداته السياسية، أم يتطلع لغد أفضل عبر المطالبة بحقوقه المدنية المقدسة؟ أم أنه يخلط الإثنين معًا لدرجة أنه لم يكسب شيئًا يُذكَر لا من هذا ولا من ذاك؟
بيقينٍ ثابت يمكن القول: هذه الأسئلة تحتاج إلى أكثر من حياة لكي يجيب عليها الجمهور الديني، ولا أظنه سيجيب على الإطلاق! لأنه اختار أن يبقى بين المنزلتين؛ لا هو ديني بوجه ولا هو دنيوي بوجه آخر؛ إنه جمهور يتأرجح بين الحياة والموت.
من جملة الخطوب والمصائب التي توالت على العراقيين هو ربط السياسة بالعقيدة ربطًا محكمًا، حتى أن المرء يقع في حيرة من أمره؛ هل يتعامل مع تنظيمات سياسية دنيوية أم مجموعة من الأنبياء والرسل؟.
لا ادعي أن لهذا الربط صيغة مُصَرّحٌ بها على نحو مباشر، لكن لسان الحال والصيغ التعبوية السياسية، يتلمس فيها المرء بعدًا عقائديًا شبه واضح. والنتيجة كالتالي، وبدافع ردة الفعل: سيعمد معارضو التنظيمات السياسية إلى النظر لهذه التنظيمات بوصفها خطوط عقائدية صرفة؛ وبالتالي بروز شرائح اجتماعية واسعة تندد بالخطاب الديني من حيث كونه خطابًا سياسيًا، ذلك أن الخطابات التجريدية والمحملة بحزمة مثالية وتبريرية عالية، تصطدم بالوقائع، وهذه الأخيرة لا تفرق، بحسب التجارب المرة، بين الدين كعامل روحي، وبين السياسة كحقل دنيوي صرف.
والأمر ببساطة شديدة لأن التنظيمات الدينية لم تحسم أمرها بفصل الديني عن الدنيوي. بل لا زالت مصرة، بشكل وبآخر، على دمجهما سويًا، ما يجعل الناس هي أيضًا لا تفرق بين الإثنين حينما تقيم سلوك هذه التنظيمات، والنتيجة: الدين والسياسة هوية واحدة. لماذا؟ لأن التنظيمات الدينية لم تحسم أمرها بعد حول الفصل المرتجى بين الديني والدنيوي.
مهما كانت قوة التنظيم الديني، ومهما كانت قوة امتداده بين جماهيره، لكن حين يستمر بالتعاطي العقائدي مع السياسة فمن المرجح أن يكتب له الفشل. ربما النموذج الإيراني يغري على هذا الإصرار. هذا صحيح؛ بشرط ألا ننسى التراث السياسي الإيراني وذلك المزيج الحضاري المدني والديني العجيب الذي نجح به الإيرانيون إلى حد كبير في الحفاظ على تقاليد الدولة.
أيًا كان الأمر ومهما كانت ملاحظة الناقدين على السياسة الإيرانية، فلا أظننا نختلف على براعتهم السياسية. لذلك المقارنة مع النموذج الإيراني تبدو بعيدة ولا تمتلك مقومات المقارنة أصلًا، فمن باب أولى، بشرط صدق النوايا وتوفر الرغبة في بناء دولة، ينبغي على الجماعات العقائدية أن تعالج نقصها البنيوي وافتقارها الواضح لنخب سياسية وإدارية. بكلمة واحدة: نقصها الصارخ لجهاز بيروقراطي لإدارة مؤسسات الدولة. بخلاف ذلك ستبقى هذه الجماعات تدور في فلك الأوهام والفشل السياسي.
يكافح الصدريون على ترسيخ مبدأ الأغلبية وهذا مهم، ويكافحون كذلك لإزالة المعسكر القديم وهذا أكثر أهمية. وبصرف النظر عن كل النظرات المشككة في هذه النوايا فيما إذا كانت صراعات لغرض سلطوي محض أم لإشاعة روح الديمقراطية، أقول: لو صرفنا النظر عن كل هذا التشكيك، فستبقى مسألة جوهرية ينبغي على كل أغلبية سياسية قادمة أن تضطلع بشؤونها، وأعني بها مسألة تهيئة جهاز إداري متكامل لمؤسسات الدولة.
صحيح أن القضية ليست بهذه السهولة على الإطلاق، وصحيح أن ما يجري على الجماعات الدينية يجري بشكل مماثل على التنظيمات الدنيوية (إنْ وجدت!)؛ لكن بما أن الجماعات الدينية تمتلك الجمهور الأوسع (ومنهم الصدريون بالطبع)، فينبغي لها أن تضمن هذه التحديات في خطابها السياسي، لا أن يتحول هذا الأخير إلى خطابات عاطفية لا تصب في صالح بناء الدولة، ولا تعطي رسائل تطمين للآخرين. القضية لا تحتمل الجدل، فالعراق يمر بمفترق طرق غاية في الخطورة، وقد جربنا الحماس في الماضي وكانت نتائجه دمًا ودموعًا.