حرية – (7/8/2022)
سلّط تقرير صحفي الضوء، على تنامي عادة “الفصلية” العشائرية في العراق، والمتمثلة بتقديم النساء والفتيات كفدية ’فصل عشائري’، وتأثيرها على النساء ومستقبلهم.
وبحسب التقرير الذي نشره موقع “رصيف22” (7 آب 2022)، “يستخدم هذا النوع من التزويج كوسيلة لحل الخصومات العشائرية إذ يعمد الخصوم إلى المطالبة بنساء العشيرة الأخرى كتعويض ضمن أحكام القضاء البدوي”.
وأضاف التقرير أن “تحديد قيمة نساء الفصلية يختلف بحسب جسامة الجريمة، ولكن غالباً ما تعادل قيمة الفتاة الواحدة ما بين 1000 و2000 دولار، ويرتفع هذا المبلغ كلما صغر سنها وزاد جمالها، بينما تعادل البكر اثنتين أو ثلاثاً من مثيلاتها من المطلقات أو الأرامل”.
وأدناه نص التقرير:
عادة عشائرية قديمة حوّلت حياة سارة من طفلة في الـ14 ربيعاً إلى ديّة مُنحت قسراً، بدون درايتها بالأزمة أو حتى معنى الزواج.
بداية القصة، كانت نزاعاً عشائرياً استمر طويلاً بلا توقف، تدخل الوسطاء من القبائل الأخرى جمع العشيرتين إلى التفاوض حيث يخصع الطرفان لأحكام القضاء العشائري المسمى بـ”الفصل”.
الرجال يَقتلون والفتيات يدفعن الثمن
زجّ بها أبوها مع مجموعة من نساء القبيلة لإتمام الصلح، لتبدأ حياة مختلفة تماماً عن سابقتها، عاشت فيها خمس سنوات مليئة بالرعب والتعنيف الشديد من زوجها إلى اليوم الذي أصيبت فيه بارتجاج دماغي، الأمر الذي دفع بزوجها إلى الاتصال بأبيها لأخذها إلى المستشفى.
تقول سارة: “كانت المرة الأولى التي أرى فيها أبي بعد خمس سنوات من المنع، طالبته بتطليقي من زوجي، وهو ما تم بعد دفع 10 آلاف دولار له للموافقة على طلاقي بدون مشاكل عشائرية أخرى”.
وتتساءل: “بأي ذنب زوجوني وأضاعوا سنوات طفولتي بسبب تقاليد بالية لا يرضاها دينهم أو دنياهم؟”.
سارة ليست الضحية الوحيدة لزواج الفصل في العراق، هنالك العديد من القصص المشابهة مع اختلافات بسيطة في التفاصيل التي تتحول فيها الأنثى إلى زوجة موؤودة لدى عشيرة ربطتها عداوة سابقة مع عشيرتها وعائلتها.
المرأة تُدفع كجزء من الدية من عشيرة القاتل
زواج الفصل أو الدية، ويطلق عليه محلياً بالفصلية، هو من أبرز الممارسات العشائرية في العراق، يستخدم هذا النوع من التزويج كوسيلة لحل الخصومات العشائرية إذ يعمد الخصوم الى المطالبة بنساء العشيرة الأخرى كتعويض ضمن أحكام القضاء البدوي، ويتم اللجوء إليه عادة في قضايا الثأر، أو في حال عجزت إحدى العشائر على تسديد ما بذمتها من مطالب مالية.
يختلف تحديد قيمة النساء الفصلية بحسب جسامة الجريمة، ولكن غالباً ما تعادل قيمة الفتاة الواحدة ما بين 1000 و2000 دولار، ويرتفع هذا المبلغ كلما صغر سنها وزاد جمالها، بينما تعادل البكر اثنتين أو ثلاثاً من مثيلاتها من المطلقات أو الأرامل.
تعادل قيمة الفتاة الواحدة ما بين 1000 و2000 دولار، ويرتفع المبلغ كلما صغر سنها وزاد جمالها، بينما تعادل البكر اثنتين أو ثلاثاً من المطلقات أو الأرامل تنقسم نساء الفصلية الى مجموعتين، يطلق على الأولى بـ”القدمة”، أما المجموعة الثانية فتسمى بـ”التالي” أو “المؤخرات”، ويمكن استبدال هذه المجموعة ببدل مالي أو مادي على عكس المجموعة الأولى التي يوجب منحها كتعويض أساسي غير قابل للاستبدال.
ترجع أصول “الفصلية” إلى المجتمعات البدوية القديمة، ورغم الخلاف في تحديد تاريخ وأصول هذه العادة، يجتمع الباحثون على أن انتشارها سابقاً يختلف عن مفهومها الحالي.
استُخدم هذا النوع من التزويج القسري أول الأمر من أجل التقريب بين العشائر بصلات الرحم والدم، وخلق نوع من التفاهم والتآزر بينهما، ولكن نتيجة للمشاكل المرافقة لإتساع المجتمعات البدوية المتاخم بعضها بعضاً، تم تضمين زواج الفصلية كأحد أحكام القضاء التي تحل الخصومات العشائرية.
سكوت الدولة مقابل رضى العشائر
حافظت قبائل البدو الرحّل على هذه العادة حتى بعد استقرارها في الأرياف، ولكن ممارستها أصبحت رديفاً لقوة النظام السياسي أو ضعفه.
يقول عالم الاجتماع علي الوردي عن علاقة الأعراف العشائرية بالسلطة في كتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق: “إن نفوذ العشائر متأرجح بوضعية الكر والفر بينه وبين الحكومة المركزية إبان العهد العثماني، فتقوى العشائر وعاداتها تارة، ثم تضعف مع قوة الدولة المركزية تارة أخرى”.
يعمد الخصوم إلى المطالبة بنساء العشيرة الأخرى كتعويض وفق القضاء البدوي، يتم اللجوء إلى “زواج الفصلية” في قضايا الثأر، أو في حال عجز العشيرة عن تسديد مطالباتها المالية.
استمر هذا الواقع حتى بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921، ولكنه كان مقتصراً على الأطراف والمناطق البعيدة عن سلطة الدولة. وعادت ظاهرة زواج الفصل لتنتشر داخل المدن الرئيسية في بغداد وجنوب العراق، بعد عام 2003، ساعدها في ذلك ضعف سلطة الدولة، الذي استغلته العشائر لتقوية نفوذها، فيما لم يمانع السياسيون هذا الأمر، وواظبوا على التقرب من العشائر للحصول على دعمها، من خلال تسليحها وتوظيف أبنائها ضمن السلك العسكري والأمني.
خلق هذا الدعم نفوذاً غير مسبوق، وساهم في انتشار أحكام الفصلية التي غالباً ما تكون مفروضة من قبل القبائل القوية والمقربة من النظام السياسي أو الحزبي.
ويقول مصدر أمني في محافظة البصرة إن محافظته هي الأعلى تسجيلاً لحالات زواج الفصلية، بسبب كثرة النزاعات العشائرية الحاصلة فيها والتي غالباً ما تنتهي بالتراضي بعد الاتفاق على عدد الفصلية.
وأضاف: “إن القوات الأمنية غير قادرة على التدخل، خوفاً من أن يؤدي ذلك الى صدامات مسلحة أخرى، إضافة الى عدم وجود نص قانوني واضح يبرر تدخل الأجهزة الأمنية في هذه الحالة”.
القانون يجرّم الزواج بالإكراه طبعاً
نادراً ما تطرق الجانب القانوني إلى صلب هذه المشكلة، فلا نصوص جديدة باستثناء ما أشارت له المادة 9 من قانون الأحوال الشخصية 188 لعام 1959 والسارية حتى الآن والتي تنص على أنه “لا يحق لأي من الأقارب أو الأغيار، إكراه أي شخص ذكراً كان أم أُنثى على الزواج بدون رضاه، ويعتبر عقد الزواج بالإكراه باطلاً”.
يرى الباحث القانوني علاء البياتي أن هذا القانون يعاقب مقترفي الزواج القسري والفصلية بالحبس لمدة ثلاث سنوات أو الغرامة في حال كان الزوج من الأقرباء، أو بالسجن 10 سنوات لغيرهم، ولكن تنفيذه يتوقف على مفهوم الزواج المدني دون الشرعي، ويوضح لرصيف22 أن معظم حالات الزواج الفصلي تتم عندالكاتب الشرعي، ولا تتم أرشفتها ضمن سجل الأحوال المدنية، كما إن معظم المتزوجات فصلياً يتجنبن اللجوء الى المحاكم خوفاً من القبيلة التي سترى في سلوكها إخلالاً بالتقاليد المتوارثة، وتؤدي بدورها الى هدر دمها حفاظاً على سمعة القبيلة، وكذلك بالنسبة لأسرتها، التي تعتبر قانوناً شريكاً في الجريمة.
عدم توثيق الزواج لا يؤثر على المرأة فحسب، بل على أطفالها، إذ يُمنع تسجيلهم أو منحهم أوراقاً ثبوتية، ويُمنعون تالياً من حقوق التعليم أو الرعاية الطبية
في عام 2015 ضجّت محافظة البصرة بقصة تزويج 51 امرأة قسراً ضمن أحكام الفصلية، لم تتحرك الأجهزة الأمنية أو القضائية لإبطال هذه المأساة.
وفصّلت أخت إحدى ضحايا هذه القصة فأكدت أنها لم تر أختها منذ تاريخ زواجها بسبب المنع الذي فرضه زوجها عليها.
لسماع أخبارها تلجأ عائلتها إلى التواصل مع جيرانها الذين يتواصلون معها بدورهم من خلال باحة الدارين “المنور” الملاصقة لمنزلها.
بحسب العائلة تعيش نور وهو الاسم المستعار لفتاة عاشت حياة عبودية بحتة، ولا تمتلك أي وسيلة للترفيه عن نفسها ولا حتى تلفازاً، ويعمد زوجها إلى هذا الحرمان وإلى تعنيفها باستمرار عقاباً لها على جريمة عشيرتها.
يُعتبر المجتمع شريكاً أيضاً في انتشار هذه العادة، نظراً لتعزيزه مكانة الممارسات العشائرية ضمن نطاق معيشته، ويبرر البعض هذا الصمت بالخوف من نفوذ القبائل وتطبيقها للأعراف ضد من يعارضها، والتي قد تصل الى القتل.
العشائر التي تلجأ الى فرض زواج الفصلية ترى فيها الوسيلة الوحيدة لوقف هدر الدماء بين العشائر، بحسب أحد الشيوخ في محافظة ميسان جنوب العراق، وهو تحدث شريطة عدم ذكر إسمه.
وأكد لرصيف22 أن التهاون في تطبيق هذا العرف سيعرض أبناء قبيلته إلى اعتداءات متكررة من بقية العشائر، كما يرى في زواج الفصلية مظهراً لإبراز قوة عشيرته أكثر من كونه ممارسة متعلقه بالعدالة الاجتماعية.
الفصلية تعيش حياتها في عائلة تحتقرها
تعيش نساء الفصلية في مرتبة أدنى من الزوجة، فهي لا تمتلك أية حقوق مشروعة، فيما لا يتقبلها المجتمع التي تم زرعها فيه كمتزوجة فصلية ولتاريخ عائلتها وعشيرتها مع عائلة زوجها، وفي حال تطلقت تدخل في دوامة أخرى لا نهاية لها هي وأطفالها، بحسب الباحثة الاجتماعية سجى خالد.
تقول خالد: “إن هذه الدوامة تسبب إصابة هذه الفئة من النساء بالعديد من الأمراض النفسية، منها الفصام والصدمة الاجتماعية، وتدفع ببعضهن الى الانتحار”.
لا يوجد أي إحصائية رسمية لعدد المتزوجات وفق مفهوم الفصلية، بسبب عدم تصريح هذه الفئة بطبيعة زواجها لدى المحاكم أو عدم تسجيله أساساً.
في عام 2015 استيقظت محافظة البصرة على خبر تزويج 51 امرأة قسراً ضمن أحكام زواج الفصلية، لم تتحرك الأجهزة الأمنية أو القضائية لإبطال هذه المأساة
عدم توثيق الزواج لا يؤثر على المرأة فحسب، بل يمنع أطفالها بدورهم من ممارسة أبسط حقوقهم، إذ يمنع تسجيلهم ضمن سجلات المواطنة المدنية أو منحهم أوراقاً ثبوتية، ويمنعون تالياً من حقوق التعليم أو الرعاية الطبية في المستشفيات العامة أو الخاصة.
استمرار هذه المأساة تجاه العراقيات لا يتوقف عند مصادرة حياة النساء بأسوأ طريقة ممكنة، وترخيصها إلى أدنى درجة، بل يحمل مخاطر جمة على مستقبل البلد، خاصة أنه يزداد انتشاراً دون أي مانع حكومي أو قانوني، وبعيداً عن حقوق المرأة والطفل في هذا البلد الذي يعيش بلا حقوق منذ عام 2003.