حرية – (14/8/2022)
لَطالما حدَّدت عصابات المافيا منذ عقود طويلة، وعند تأسيسها، أنظمةً دقيقة ومعقدة لتنظيم أنشطتها وإدارة شؤون المنتسبين إليها من أعضاء وعملاء.
ولم تدخر أفلام السينما وسعاً في استكشاف هذه النُّظم والقوانين، وحاكت حولها العديدَ من القصص والروايات الغامضة.
ومن بين هذه القوانين الصارمة التي تتّبعها عصابات المافيا العالمية بشكل ممنهج قوانين تُلزم أعضاءها بعدم الوشاية بالآخرين مهما كلّف الأمر، وذلك فيما يُعرف بقاعدة أومرتا.
وبموجب قاعدة “أومرتا” يتعرّض أي شخصٍ يتحدث إلى الشرطة للتعذيب والقتل هو وعائلته، جزاء فعلته، وتخويفاً وعبرة للآخرين لكي لا يحذو أحد حذوه.
الالتزام بـ”أومرتا” حتى لو أمام حبل المشنقة!
يوضّح موقع All that’s interesting أن العديد من رجال المافيا، سواء من المنتمين إلى عصابة الندرانجيتا، أو الكامورا، اللتين تُعدان من أكبر عصابات إيطاليا والعالم، قد لقوا حتفهم بموجب قاعدةٍ بسيطة ومختصرة في كلمةٍ واحدة، وهي الأومرتا، أو “عهد السكوت”.
وفيها “يُعتبر كل من يلجأ إلى القانون ضد زملائه إما أحمق أو جباناً. ومن يعجز عن الاعتناء بنفسه دون مساعدة الشرطة هو أحمق وجبان في الوقت ذاته، وتجوز عليه العقوبة الرادعة”.
إذ كان عهد السكوت أمام سلطات إنفاذ القانون بمثابة حجر الأساس للأخلاقيات الإجرامية بين عصابات الجريمة المنظمة في جنوب إيطاليا وفروعها حول العالم.
وبموجب هذه الأخلاقيات الصارمة كان يُحظر على “الشرفاء” من أعضاء المجموعة الكشف عن تفاصيل عالمهم السري الإجرامي أمام الدولة، حتى وإن كان ذلك يعني الاضطرار لدخول السجن أو الوصول إلى حبل المشنقة واستقبال حكم الإعدام بـ”شرف”.
القاعدة حملت قدسية كبيرة داخل العصابات من أكبر أعضائها لأصغرهم، لذلك هناك العديد من القصص حول انتهاكها وصونها، والظروف الصعبة التي استلزم القيام بها من أجل تحقيقها.
بداية التسمية وأصل نشأتها
لطالما كانت الأومرتا من الأسرار الغامضة في تاريخ المافيا السري. وبحسب موقع All that’s interesting، من المحتمل أن يرجع أصلها إلى شكلٍ من أشكال المقاومة ضد ملوك إسبانيا، الذين حكموا جنوب إيطاليا لأكثر من قرنين، بداية من القرن السادس عشر وحتى بدايات القرن الثامن عشر.
أما الاحتمال الأرجح فهو أنه قد جرى تبنيها كنتيجةٍ طبيعية لخروج المجتمعات الإجرامية المبكرة عن القانون. حيث كانت مملكة الصقليتين تتداعى في مطلع القرن الـ19، وبدأت عصابات قطاع الطرق في العمل كجيوشٍ خاصة لمن يدفع أكثر خلال مراحل الفوضى المتتالية. ومن هنا جاءت ولادة المافيا وصعود الثقافة الشعبية التي احتفت بهم.
وبعد اندماج شمال إيطاليا مع جنوبها في مملكةٍ واحدة خلال ستينيات القرن الـ19؛ أنشأت الدولة الوليدة نظاماً قضائياً وقوات شرطة جديدة.
حينها وجدت العصابات الإجرامية نفسها في مواجهة منافسين أقوياء جدد، مع بسط تلك المؤسسات نفوذها جنوباً.
واستجابةً لذلك، قرّر “الرجال الشرفاء” تبنّي مبدأ بسيط ووحشي: عدم الحديث إلى السلطات مطلقاً، وتحت أي ظروف، عن الأنشطة الإجرامية التي ارتكبها أي شخصٍ أياً ما كانت طبيعتها. وحتى لو كان الحديث عن أعضاء العصابات الميتين.
وكانت عقوبة انتهاك القاعدة هي الإعدام، من دون أي استثناء.
القانون كان سبباً في ازدهار المافيا وتعزيز سلطتها
نشأت المافيا في صقلية خلال أواخر العصور الوسطى، إذ ربما بدأت كمنظمة سرية مكرسة للإطاحة بحكم الغزاة الأجانب المختلفين عن الجزيرة، مثل المسلمين والنورمان والإسبان.
وبحسب الموسوعة البريطانية Britannica، بدأت المافيا من العديد من الجيوش الخاصة الصغيرة، أو “mafie” باللغة الدارجة، التي تم توظيفها من قبل الملاك الغائبين لحماية أراضيهم من قُطّاع الطرق في الظروف الاستثنائية الخارجة عن القانون، التي سادت معظم صقلية عبر القرون.
وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر نظّم المجرمون في هذه الجيوش الخاصة أنفسهم، وتزايدت سلطتهم، لدرجة أنهم انقلبوا على مالكي الأراضي، وأصبحوا هم مصدر إنفاذ القانون الوحيد في العديد من المناطق.
كما بدأت تلك المجموعات في ابتزاز المال من مالكي الأراضي مقابل حماية محاصيلهم. نجت المافيا وتجاوزت الحكومات الأجنبية المتعاقبة في صقلية، لأن الأخيرة كانت في كثير من الأحيان استبدادية، لدرجة أنها أبعدت سكان الجزيرة أنفسهم، وجعلت نظام المافيا الخاص للعدالة مصدراً مقبولاً لتحقيق العدالة وإنفاذ القانون.
وبشكل أساسي، استند هذا القانون إلى الأومرتا، أي الالتزام المطلق أو عهد السكوت كما أسلفنا، وكان يتم تحقيقه بشكل صارم تحت أي ظرف من الظروف.
وعمل هذا القانون الأخلاقي على تنفيذ العدالة للسلطات القانونية، وعدم المساعدة بأي شكل من الأشكال في الكشف عن الجرائم المرتكبة ضد الأعضاء أو ضد الآخرين.
كما كان الحق في الانتقام من الظلم محفوظاً للضحايا وعائلاتهم، وكان كسر قانون الصمت هذا بمثابة انتقام من المافيا، وإعلان مباشر للعداء والحرب بين الجانبين.
وبحلول عام 1900، انضمت “عائلات” المافيا المختلفة ومجموعات العائلات المتمركزة في قرى غرب صقلية معاً في اتحاد فضفاض، وسيطروا على معظم الأنشطة الاقتصادية في مناطقهم المحلية. وذلك قبل أن يمتد الأمر ليشمل مختلف دول العالم اليوم.
عندما تم انتهاك قانون الصمت المقدس
كان الإيطالي جوزيف فالاتشي رجل مافيا منذ نعومة أظفاره، قبل أن يصبح جندياً موثوقاً في صفوف زعيم المافيا فيتو جينوفيز في الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن فالاتشي أدين مع جينوفيز بتهريب المخدرات عام 1959، وهو مجالٌ شائع لكسب المال بين العصابات في ذلك الوقت.
وأثناء احتجازه عام 1962، تمكن فالاتشي من قتل رجلٍ ظنّ أنه قاتلٌ مأجور أرسله جينوفيز. وللإفلات من عقوبة الإعدام اضطر فالاتشي حينها للإقدام على قرارٍ لم يفكر فيه أي رجل مافيا من قبل، وهو الإدلاء بشهادته أمام مجلس الشيوخ. حينها كانت تلك هي المرة الأولى التي يتم فيها التحدث بشكل مُعلن عن عصابات المافيا وأنشطتهم.
وفي سلسلةٍ من الشهادات المتلفزة، عرّف فالاتشي الرأي العام الأمريكي على الأسرار التي لم تكن معروفةً قبل ذلك سوى لأعضاء المافيا وأبناء الجالية الإيطالية-الأمريكية، بحسب موقع History التاريخي.
وكشف وقتها أن المنظمة التي كان ينتمي إليها تُطلق على نفسها اسم “كوزا نوسترا”.
وأخبر فالاتشي لجنة مجلس الشيوخ بأن العائلات كانت تحظى بهيكلةٍ شبه عسكرية، وكان لها نفوذها على كافة مستويات المجتمع، وأن عهد السكوت أو الأومرتا هو الذي كان يحدد “رجل المافيا” الحقيقي.
وقال لهم حينذاك إن اسم هذه القاعدة هو أومرتا، وإنّه كان ينتهكها بشهادته تلك أمام العالم.
وكانت شهادة جوزيف فالاتشي بمثابة إيذان بفجر عصرٍ جديد لجهود مكافحة المافيا الأمريكية. ومع انكسار هيبة الأومرتا، بدأ المزيد من رجال المافيا في التقدم إلى مسؤولي جهات إنفاذ القانون الفيدرالية خلال السنوات التالية، بالتزامن مع ضغط الأجهزة للحد من نفوذ العائلات الإجرامية.