حرية – (16/8/2022)
اياد العنبر
إنّها المرة الأولى التي يتبارى فيها جمهورُ الأحزاب السياسية الشيعية في تظاهرات تعبّر عن انقسام سياسي في العلن، لكنَّ في جوهرها تعبّر أيضاً عن انتقالة نوعية في الخطاب السياسي الشيعي نحو الدولة والصراع على السلطة. وبعيداً عن الشعارات والهتافات التي يرفعها الجمهورُ الشيعيّ المتأدلج الموالي لِلفرقاء السياسيين الشيعة، فإنَّ الاتفاق على أنَّ “الانتخابات” هي المدخل لحلّ الأزمة السياسية، وهو استحقاق سياسيّ في التحول نحو النظام الديمقراطي قد تأخّر كثيراً، إذ عملت على تعطيله إرادات خارجية وداخلية.
التظاهرات هذه المرة داخل المنطقة الخضراء وحول مداخلها، تجري بين الأحزاب السلطوية الشيعية نفسها، وليس بينها وبين الجمهور الذي خرج ضدّهم في 2011، و2015 و2018 وأخيراً في تشرين 2019. ولذلك فإنَّ رمزية الاحتجاجات بين أحزاب السلطة الشيعية، تعطي انطباعاً بأنَّ منظومة تقاسم السلطة والحكم التي ثبتوا ركائزها منذ 2003، لم تعد قادرةً على الاستمرار. وما جرى وصفه بالانسداد السياسي ما هو إلا تعبير عن فشل معادلة السلطة التقليدية في البقاء كآلية لتشكيل الحكومات والتجاوز على نتائج الانتخابات والإبقاء على صفقات التوافقية.
ما أحاول قراءته في هذا المقال، هو التفكير بأفق سياسي بعيد عن لحظة الصراع على تشكيل الحكومة بين قوى الإطار التنسيقي والتيار الصدري. لأنَّ ما يحدث الآن هو انتقالة في الصراع السياسي بعيداً عن سرديات الحفاظ على الحق السياسي لِلمكون الشيعي، أو بقاء الفرقاء السياسيين الشيعية موحدين في تحالف هشّ يتصدّع بعد الانتهاء من تقاسم رئاسة الوزراء والوزارات والمناصب العليا في الدولة. وطرفا الاحتجاجات يتنافسان على كسب الشرعية السياسية لدعم تظاهراتهما بعيداً عن الشعارات الطائفية.
وهناك تحول آخر جوهري، يبدو أنه غير واضح تمامًا حتّى الآن ولا يمكن التكهن بنجاحه أو اخفاقه، في سلوك قوى السلطة وجمهورها، أعني به بطلان إيهام الجمهور بالمخاوف المرتبطة بالهوية وقلق العلاقة مع الآخر المختلف في المذهب، بمعنى أنَّ “الهوية” لم تعد مبعث توتر أو مؤشراً على الاتجاه السياسي.
لقد كانت احتجاجات تشرين 2019 لحظةً فاصلةً في التمرد على ادعاءات الطائفية السياسية، ورغم محاولات قوى السلطة لتخوينها، إلا أنها عملت على تسقيط ادعاءات الطبقة الحاكمة بأنها تملك حقّ التمثيل السياسي لِلمكون الطائفي، حتّى وإن لم تقدّم منجزاً خدمياً أو اقتصادياً لأبناء المكون ومناطقهم.
واليوم في الاحتجاجات على أسوار الخضراء، الصدريون شعاراتهم تنادي بحلّ البرلمان؛ لأنّه تجاوز التوقيتات الدستورية ويطالبون القضاء بالتدخل لحسم الموضوع! أما الإطاريون فإنَّ شعاراتهم “الدفاع عن الشرعية” والسياقات الدستورية! وهنا تحديداً، يراهن الصدريون على أنَّ تظاهراتهم تعبّر عن رغبة الجمهور وليس مطالب السيد مقتدى الصدر. وفي المقابل تحوّل الإطاريون مِن التعكّز على دفاعهم عن حقّ المكون الشيعي إلى خطاب يتوسّل بشرعية الدولة!
ورغم أنَّ الطرفَين لا يؤمنون بالانتخابات في داخل تنظيماتهم السياسية، وأغلب زعامتهم لم تصل إلى رئاسة التيار أو الحزب عن طريق الانتخاب، إلا أنَّ تمسكهم بالانتخابات المبكّرة حلاً لِلأزمة السياسية، مع اختلافهم بالتفاصيل يُعَد تطوراً مهم نحو الركون إلى الانتخابات كحلّ وليس الانقلاب أو الثورة أو التغيير بقوّة السلاح.
تملك بعض قوى الإطار فصائل مسلّحة، وسلاح موازي لسلاح الدولة، وحاولت أكثر من مرة استعراض قوة سلاحها في التمرد على قرارات الحكومة، لكنّها اليوم عاجزة عن التلويح بالسلاح وباتت قوتها معطّلة، وحتى عندما رفضت وتظاهرات ضدّ نتائج انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2021 خضعت إلى حكم القضاء. وبقي يراهن على المطاولة بتعطيل تشكيل حكومة الأغلبية من خلال الثلث المعطّل. إنَّ عدم القدرة على التلويح باستخدام السلاح في الصراع السياسي هو ليس نتاج عدم الرغبة في توظيفه، وإنّما هو إدراك بأنَّ أيّ تلويح بقوة السلاح الموازي يعني الدخول في دوّامة صراع مسلَّح لا يحتمل القسمةَ على أثنين، فإمّا خسارة كلّ شيء، أو ربح كلّ شيء. وحتّى الربح يكون بمثابة التمرد المسلّح على الدولة الذي لا يقبل به الشركاء السياسيون السنة والكرد، ولا الإرادات الدولية.
في المقابل، يحسب إلى مقتدى الصدر هذه المرة مطالبته بتشكيل حكومة أغلبية ورفضه التوافقية، وهي بداية التمرّد الحقيقي بالمواقف والفعل السياسي وليس الخطابات والشعارات على منظومة التوافقية السياسية. ورغم الفشل في مشروعه السياسي، وبعيداً عن نوايا الصدر في معاقبة خصومة السياسيين الشيعة، إلا أنَّ المطالبة بحكومة أغلبية ستبقى محاول انقلاب سياسي على منظومة الحكم من داخلها.
إنَّ الصراع السياسي بين الفرقاء السياسيين الشيعة، مادام يدور في أطر الانتخابات والاحتجاج بالاحتكام إلى الدستور والقضاء، على الأقل لحد الآن، فهذا يعني أنَّ لحظة البداية لتصحيح العملية الديمقراطية في العراق التي أجهضت في انتخابات 2010، وفي محاولة سحب الثقة عن حكومة المالكي في 2012، أصبحت اليوم هي استحقاق لا يمكن التحايل عليه أو تعطيله.
ورغم الخيبة والاحباط التي يشعر بها العراقيون بعد كلّ انتخابات، التي تُركَن نتائجها ويتم الجلوس عند طاولة التوافق على تقاسم السلطة بعنوان الاستحقاق المكوناتي، وتكون الانتخابات مجرّد أوزان لتقاسم الوزارات، فإنَّ الانتخابات عندما تبقى الراهن الوحيد بين الفرقاء السياسيين لِلتغيير السياسي أو للاتفاق على معادلة جديدة لتشكيل الحكومات، فذلك يعني أننا في مرحلة جديدة من التنافس السياسي ربما تنعكس على أحداث تغيير في بنية نظام الحكم.
وبالنتيجة النهائية، التصارع بين أقطاب السلطوية الشيعية، عندما يكون فيه أغلبية الجمهور لاعباً دَور المتفرّج، وتحاول الأطراف المتصارعة استقطابه لمشروعها، فهذا يعني أنها بحاجة إلى الجمهور المتردد الذي هو خارج انتماءات الولاء والتبعية لأحزابها. ومن ثم، ربما يكون هذا التنافس فرصة لإضعافها؛ بسبب عدم قدرتها على تغيير نمط سلوكها وخطابها، والذي قد يكون فرصةً لنشوء حركات وأحزاب وتوجهات سياسية جديدة تقدّم نفسها كمنافس سياسي من خارج قوى المنظومة السلطوية الشيعية.