حرية – (8/10/2022)
سلّط تقرير نشره معهد واشنطن على المعضلة الإيرانية في التعامل مع تعقيدات الساحة الشيعية في العراق، ويرى أن الإشكال الرئيسي الذي تواجهه إيران اليوم على مستوى ترميم البيت السياسي الشيعي نابع في الأساس من عدة أسباب، أهمها؛ “فشل” إسماعيل قاآني ما يكشف أن النظام الإيراني لم يكن مستعداً بالأساس للتعامل مع قضية بحجم اغتيال سليماني.
ويؤكد التقرير (8 تشرين الأول 2022)، أن” إيران اتخذت مقاربة عدم التدخل في السياسة العراقية مؤخرا على أمل أن تصب الانقسامات الداخلية في صالحها في نهاية المطاف”.
تالياً نص التقرير:
مازالت إيران تنظر بخشية كبيرة لخطوة انسحاب زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر من العملية السياسية، وتحديداً بعد الأحداث الأمنية الخطيرة التي شهدتها المنطقة الخضراء في نهاية الشهر الماضي، بعد محاولة إنصار الصدر اقتحام القصر الرئاسي والاعتصام فيه، وحصول مواجهات دامية مع أفراد يتبعون فصائل مسلحة موالية لإيران. ومع تعثر حلفاء إيران في الإطار التنسيقي الشيعي في مسار تشكيل الحكومة الجديدة، تزداد المخاوف الإيرانية من أن بلوغ الصراع الشيعي الحالي بين الصدر وقوى الإطار إلى مديات أوسع، قد يؤدي إلى إعادة تشكيل المعادلة الشيعية في العراق، وفق أنساق جديدة قد لا تتناسب مع الدور الإيراني وأهدافه.
إن الإشكال الرئيسي الذي تواجهه إيران اليوم في العراق، وتحديداً على مستوى ترميم البيت السياسي الشيعي، والحفاظ على التوافقات الشيعية -الشيعية ضمن سقف المصالح الإيرانية في البلاد، نابع في الأساس من عدة أسباب، أهمها؛ فشل إسماعيل قاآني -قائد فيلق القدس- في ملئ الفراغ الذي خلفه قاسم سليماني، فاللحظة الحرجة التي تولى فيها قاآني قيادة فيلق القدس في يناير 2020، أظهرته وكأنه بلا برنامج واضح في العراق. ومن ثم، يمكن القول بأن تولى قاآني منصب قائد فيلق القدس كشف أن النظام الإيراني لم يكن مستعداً بالأساس للتعامل مع قضية بحجم اغتيال سليماني، أو حتى في تحديد الأولويات الإستراتيجية الإيرانية في العراق بعد اغتياله.
من الواضح أن عدم امتلاك قاآني رؤية وتصور واضح عن الحالة العراقية، بما تحتويه من تفاعلات وتيارات وتقلبات، إلى جانب عدم وجود شخصية مساندة له في العراق، كما كان عليه الحال مع قائد قوات الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، والدور الذي كان يلعبه إلى جانب سليماني، إلى جانب تعدد أدوار المؤسسات الإيرانية العاملة في العراق ومزاحمتها للحرس الثوري، كلها متغيرات انعكست بطريقة أو أخرى على دور قاآني أولاً، والحرس الثوري ثانياً، في كيفية إدارة الصراع الشيعي- الشيعي في العراق. ولعل هذا ما يفسر فشل قاآني وعبر زياراته المتكررة للعراق، في إثناء الصدر عن خطواته. وعلى ما يبدو أن إيران اختارت مؤخراً مراقبة الوضع العراقي، دون التدخل المباشر فيه، بسبب ردود الأفعال القوية التي أظهرها الصدر وتياره ضد الدور الإيراني، وما تبعه من شعارات مناهضة لإيران “إيران لن تحكم العراق” رفعها متظاهرو تشرين في احتجاجاتهم الأخيرة التي شهدتها العاصمة في بغداد مطلع الشهر الجاري.
إضافة إلى ذلك، يشير التفكك السياسي الذي شهدته الجماعات الموالية لإيران، وتعدد الخطابات داخل الإطار التنسيقي الشيعي، سواءً بعد انسحاب الصدر من العملية السياسية، أو بعد فض اعتصامه داخل المنطقة الخضراء، إلى إن إيران لم تعد قادرة على ضبط مسار الصراع الحالي، ليس بين الصدر والإطار فحسب، وإنما داخل الإطار أيضاً.
مع التحولات الكبيرة التي حدثت في القيادة بعد مقتل سليماني، ومع بروز صراع داخلي بين المعسكر الشيعي ، الذى لم يعد قادرا على مساندة داعميه الإيرانيين ،صارت يران تواجه مخاوف واضحة، من استنزاف القدرة العسكرية والبشرية للفصائل المسلحة الموالية لها في صراعها مع الصدر، خصوصاً وإن إيران بذلت جهوداً مالية وتسليحية في دعم ومساندة هذه الفصائل، لتكون بالصورة التي هي عليها اليوم، وهي مخاوف تأتي مترافقة مع دعوات مستمرة من قبل الصدر لحل هذه الفصائل وحصر سلاحها بيد الدولة، وهي دعوة عبر عنها الصدر صراحة على خلفية الأحداث الدامية التي وقعت مؤخراً.
الصدر والصرع على المركزية الشيعية
على الرغم من أن الصدر قد نجح بالفعل في تغيير قواعد اللعبة السياسية، إلا أنه لا زال لا يمتلك اليد العليا في العراق حتى الآن، ففي أواخر شهر أغسطس، أعلن المرجع الديني الشيعي كاظم الحائري، اعتزاله العمل المرجعي والتقليدي، مُطالباً مقلديه بتقليد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي وليس الصدر، وهي خطوة يمكن تفسيرها على أنها إهانة كبيرة للصدر، الذي سبق وأن تتلمذ على يد الحائري. ورغم عدم وجود ما يثبت إن خطوة الحائري جاءت بضغط أو إكراه إيراني، الا انها سحبت البساط من تحت أقدام التيار الصدري، لاسيّما قائدهم مقتدى الصدر، الذي كان يستمد غطاءه الشرعي من الحائري.
الآن، وبعد الاستقالة، تتصاعد شكوك حول الأهلية الدينية للصدر وصفاته القيادية، إذ شكَّك الحائري في خطاب استقالته بقدرة الصدر للقيادة؛ نظرًا لعدم تمتُّعه بصفات المجتهد، وقلَّل من شأنه، ومن مكانة النجف. في ما يبدوا أن إيران وعبر خطوة الحائري الأخيرة، تحاول المضي قدماً في مشروع الأممية الشيعية أو المركزية الشيعية المرتبطة بقم وليس النجف. ان قيام رجل دين شيعي عراقي مثل الحائري بحث أتباعه على دعم خامنئي يصُب بلا شك في مصلحة إيران، ويعطيها الأمل في وضع حد للصراع الشيعي التاريخي بين مرجعيتي قم والنجف، ومن ثم إعادة تشكيل العالم الشيعي وفق المركزية الإيرانية التي تقر بولاية الفقيه.
ومع ذلك، ما زال معسكر الصدر يقاوم ، فردا على استقالة الحائري أعلن وزير الصدر “صالح محمد العراقي” وعبر بيان أصدره على موقعه في تويتر، إن التيار الصدري يقر بالمرجعية القيادية للصدر، وإن وصية المرجع الشيعي محمد صادق الصدر “والد مقتدى الصدر”، بضرورة تقليد الحائري بعد وفاته، لم تعد لها صفة إلزامية بعد وفاته في عام 1999، والأكثر من ذلك فإنه عندما تم سؤال محمد صادق الصدر عن ولاية خامنئي قال؛ “إن ولايته في حدود إقليمه.” كل ذلك يمثل إقرار واضح بعد الاعتراف بولاية الفقيه بقراءتها الإيرانية، فالصدريون على مدار التاريخ لم يعترفوا بمرجعية الحائري، ولعل هذا ما فسر رد الفعل القوي الذي أظهره الصدر على هذه الخطوة، معتبراً إنها محاولة إيرانية لتهميش آل الصدر، ومركزيتهم داخل البيت الشيعي العراقي.
يحاول الصدر من خلال معارضته للسلوك الإيراني انتزاع اعتراف إيراني بمركزية التمثيل الشيعي، إلا إن ما يحصل الآن يعكس خيبة أمل كبيرة يواجهها الصدر، فهو كان يطمح بأن تلجأ إليه إيران بعد اغتيال سليماني لإدارة الوضع العراقي، إلا إن إيران بدلاً من ذلك لجأت لقيادات محلية أخرى، فضلاً عن تفعيل دور زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله داخل العراق، إلى جانب ذلك يعتقد الصدر بضرورة الحفاظ على ثنائية “قم والنجف”، ولا يجوز أن تغير إيران هذه المعادلة، ولعل هذا ما يوضح قوله بعد اعتزال الحائري، بأن المرجعية الشيعية هي في النجف وليس قم.
وفي حين يواجه الصدر بعض العقبات الكبيرة في طريقه، الا انه يبدو أن إيران حريصة على الجلوس على الهامش والاكتفاء بالمشاهدة، على الأقل في الوقت الحالي. على الرغم من عدم فعالية قاآني وعجز إيران الواضح عن السيطرة على الصدر أو حلفائها في الإطار، فإن الديناميات الحالية في العراق، لا تزال تؤدي، بطريقة ما أو بأخرى، إلى إعادة صياغة المجتمع السياسي الشيعي العراقي لصالح إيران.
على أرض الواقع، فإن الشقاق بين الصدر وإيران واضح بشكلٍ كبير، من خلال الشعارات والهتافات التي يرفعها أنصار التيار الصدري، ومنها “لا شرقية ولا غربية”، وهو الوسم الذي كتبه الصدر لأكثر من عشر مرات على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأشهر الماضية، الذي يقصد فيه “لا إيران ولا أمريكا”، إضافة إلى شعار “لا للتبعية” الذي تُقصد فيه الفصائل المسلحة الموالية لإيران.و بالنظر إلى هذه البيئة المتوترة، لا زالت طهران تراهن على ترك الصراع العراقي الداخلي للتبلور دون ممارسة نفوذها عليه.
علاوة على ذلك، لا يزال بإمكان طهران استخدام الصدر كمصدر قوة في العراق، خصوصاً إذا ما تعرضت الحالة الشيعية لتهديد خارجي مشترك، فحتى شعار الوطنية العراقية التي يرفعها الصدر قد لا تعني بالضرورة معاداة إيران، بقدر ما تعني إعادة تشكيل الدور الإيراني في العراق، بالإطار الذي يجعل الصدر بمنزلة الشريك وليس التابع لإيران.
نظرة إلى الساحة الدولية
تحمل تلك الاحداث في العراق العديد من التداعيات على السياسة الامريكية خاصة في ما يتعلق بإمدادات النفط والمحادثات النوية الإيرانية الامريكية، فرغم التحذيرات التي أصدرها البيت الأبيض مؤخراً، ودعوته الأطراف العراقية للحوار، فإن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تواجه خطراً مزدوجاً من الوضع المتأزم في العراق؛ أولا، قد تتسبب الفوضى في العراق في حدوث تقلبات كبيرة في امدادات النفط وهو ما قد يتقوض الجهود المبذولة لتهدئة سوق النفط الخام في الولايات المتحدة قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي في نوفمبر المقبل.
والأكثر أهمية، إن تعثر تحركات الصدر قد تساهم في تقوية شوكة إيران، وذلك في لحظة جيوسياسية حساسة تمر بها الولايات المتحدة في العراق والشرق الأوسط، إذ يمكن أن يؤدي الظرف السياسي في بغداد، على المدى القصير، إلى زيادة النفوذ الإيراني، فيما لو تم تشكيل حكومة إطارية قوية تسحب أوراق الضغط من يد الصدر. وعلى المدى الطويل، يمكن أن يشجع ذلك إيران على تبنى نهج أكثر عدوانية في المحادثات النووية مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، يبدو إن إيران غير مستعجلة لتشكيل حكومة جديدة في العراق، فهي بانتظار نتائج المحادثات النووية مع الولايات المتحدة، إذ سيؤدي فشلها، أو استمرار تعثرها كما هو مرجح في الوقت الحالي، إلى إمكانية أن تستخدم إيران الساحة العراقية بالضد من الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة، فخيار الفوضى السياسية قد يؤدى إلى وقف تدفقات النفط العراقي إلى السوق العالمية، فسيكون ذلك مناسباً لإيران تماماً، لأن ارتفاع الأسعار سيوفر فرصة لتصدير كميات كبيرة من الإمدادات النفطية المقيدة بسبب العقوبات الأمريكية، لتعويض الاحتياج العالمي، وهو ما تخشى منه الولايات المتحدة بالوقت الحاضر، إذ لا يزال البيت الشيعي العراقي مفككا، وأسباب انفجاره الداخلي لا زالت موجودة.