حرية – (2/11/2022)
صحيح أن البشر أو الشعوب القديمة كانوا يسافرون تحت الأرض، إلى يومنا الحالي، لكن دائماً ما كانت لفترات وجيزة؛ ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى صعوبة تواجد مقومات الحياة الأساسية، كالماء والهواء النقي. لكن هناك شعوب استطاعت العيش لفتراتٍ طويلة في مدنٍ تحت الأرض؟ هذا ما سنذكره، في هذا التقرير، عن واحدة من أغرب هذه المدن وأكبرها عبر التاريخ.
هي مدينة “ديرينكويو”؛ تصل سعة هذه المدينة إلى 50 ألف شخص، وسكنها 20 ألفاً بالفعل. ورغم أنها بُنيت قبل آلاف السنين، إلا أن هندستها العبقرية جعلتها من بين أكثر المدن استهدافاً للباحثين والزوار على حدٍّ سواء.
“ديرينكويو”.. هندسة عبقرية لإيصال الهواء
ديرينكويو، أو الفتحة العميقة باللغة العربية، هي مدينة تقع قرب كابادوكيا في منطقة الأناضول بالجمهورية التركية. وهي أول مدينة ذات تصميمٍ داخلي معقد، يسع 20 ألف شخص، إذ يُقال إن عمقها يصل إلى 85 متراً، فيما اكتُشف منها حالياً 50 متراً فقط.
تتكوّن المدينة من 13 طبقة تحت الأرض، إلا أن 8 منها فقط يمكن زيارتها ورؤيتها. هناك درج عمودي يؤدي إلى ممر كنيسة صليبية في الطابق الأدنى، تبلغ أبعادها ما بين 9 و20 متراً، مع سقفٍ يبلغ ارتفاعه 3 أمتار، والطبقات الأخرى فيها عراقيل، أو تم حفظها ومنع زيارتها ليتفرغ العلماء إلى دراستها جيداً.
يُعدّ التصميم الداخلي للمدينة مدهشاً ودقيقاً، كما يحتوي على ممرات سرية بثلاث فتحات رئيسية، يتم إغلاقها بواسطة صخور دائرية يبلغ ارتفاعها ما بين متر إلى متر ونصف، فيما يبلغ عرضها قرابة 50 سم، ويصل وزن هذه الصخور إلى 500 كلغ.
يمكن التحكم بهذه الصخور وتحريكه،ا لكن من الداخل فقط؛ بسبب فتحة تحت الصخرة تساعد في سهولة التحكم بها، تحت الصخور توجد أنفاق يبلغ طولها 8 كيلومترات، إذ تقود إلى مدينة أخرى تحت الأرض تسمى “كابادوسيا”.
فسّر العلماء ذلك بأن البشر، الذين أقاموا في هذه المدينة، كانوا يختبئون من شيء يخيفهم مثل عدو أو عاصفة أو غير ذلك.
استوطنوا المدينة خوفاً من القتل
حسب الموقع الرسمي لمدينة “ديرينكويو”، تجد في المستوى الـ5 للمدينة إحدى أجمل الكنائس الموجودة في العالم، مطبوعة على جدرانها صور الكثير من الأيقونات الموجودة في الإنجيل. وقد تم بناء تلك الكنيسة في عهد الإمبراطورية الرومانية، حين هرب المسيحيون إلى المدينة للاحتماء من المخاطر.
لم تُهجر تلك المدينة سوى في بدايات القرن الـ20؛ فقد كان يستغلها الكثير من غير المسلمين، “مسيحيين أو يهود”، للاختباء خوفاً من تعرضهم للقتل أو التعذيب من العثمانيين، كما حدث معهم من الإمبراطورية الرومانية في الماضي.
إلا أنها صارت خالية تماماً من السكان الذين لم يتركوا فيها سوى متاعهم وأثاثهم ورحلوا، قبل أن يُعاد اكتشاف المدينة في العام 1963، وتتحوّل إلى مزارٍ سياحي مهم في تركيا، ولكن لا يتم السماح بزيارة كل الطوابق فيها؛ حيث يكتفى بأول بضعة طوابق فقط للزيارة.
يعتقد المؤرخون أن هناك ممرات وقنوات تربط بين ديرينكويو والمدن الموجودة تحت الأرض في منطقة كابادوكيا، وهذا يدل على نوع من أنواع التعاون بين الحضارات الموجودة في تلك الحقبة من الزمان ووجود تواصل فيما بينهم دون الحاجة للخروج إلى السطح مطلقاً.
ويُقال إن عدداً من الحضارات استوطنت المنطقة واتخذت من المدن الموجودة تحت الأرض ملجأ لها، في تواليهم على “كابادوكيا” ما بين عامي 800 و1200 قبل الميلاد، وبالأخص الحضارة الآشورية التي ثبت أنه كان لها وجود في تلك المدن.
لقد كانت مدينة ديرينكويوفي أنسب الظروف الجوية للحفاظ على الطعام من التعفن، وللحفاظ على الحيوانات كذلك وعلى لحمها بعد الذبح، حيث كانت درجة الحرارة فيها ثابتة طوال العام تقريباً، ومهيأة لتحافظ على هواء نقي طوال العام ومياه نقية أيضاً أنقى من تلك الموجودة على السطح.
ما سر بناء ديرينكويو؟
حسب موقع “ترك برس” يقال إن مدينة ديرينكويو بنيت في العصر البيزنطي، إذ كان الناس في المنطقة يعيشون في مدن كبيرة محفورة تحت الأرض، وتتسع لجميع أفراد العائلة، وتوفر تلك المدن أماكن خاصة لتربية الحيوانات الأليفة ومخازن للمواد الغذائية.
كما تضم المدينة غرفاً دينية ومدارس، علاوة على إصطبلات وقاعات طعام ومطابخ التي لا تزال جدرانها داكنة بسبب النيران التي استخدمت في الطبخ على مر السنين.
وما حيّر العلماء حول المدينة أنها بنيت داخل صخور بركانية لينة، ما يتطلب أعمدة أساس تتحمل طبقات الأرض، ما يعني أنها بنيت من مواد دقيقة جداً وتم التعامل مع الصخور بعناية فائقة، كما دلت الاكتشافات عن وجود نهر كان يمر داخل المدينة عبر آبار اسطوانية الشكل ليصل جميع الطوابق.
المذهل في الأمر عدم وقوع كوارث انسدادية في سراديب أو ممرات مدينة ديرينكويو، وهنا سؤال حير العلماء هل من عاش في هذه المدينة بشر أم كائنات خارجية ذات قوة خارقة؟ لأن هذا الإبداع يحتاج لمواد بناء متطورة لتأسيسه، على الرغم من تأكيد المهندسين أنه من المستحيل إعادة بناء المدينة، حتى بتوفر الآلات والمعدات الحديثة.
هذه الشكوك فتحت الباب أمام إمكانية بنائها من قبل الجن، ليطلق عليها أغلب سكان المنطقة والعلماء “مدينة الجن”، لكن لم يتوصل العلم بعد لكيفية بنائها أو من قام ببنائها.