حرية – (7/12/2022)
على رغم مرور آلاف السنين لا تزال قصة ملكة سبأ موضع تنازع بين اليمنيين والإثيوبيين، بدءاً باسمها وموقع حكمها، وصولاً إلى ما تمثله من قيم حضارية وروحية، ويستمر الجدل حول هذه المسألة التاريخية عبر سرديات مختلفة، بعضها يعتمد على أدلة أثرية وتاريخية، وأخرى تعد من قبيل التاريخ المتخيل، أو الأساطير التي تم تثبيتها في فترات تاريخية معينة لأسباب تتعلق بالأنظمة والممالك التي حكمت المنطقة.
السردية الحبشية
تقول السردية الحبشية إن ملكة سبأ تسمى “ماكيدا” وارتبطت بنبي الله سليمان (ملك بيت المقدس) أثناء زيارتها للقدس وأنجبت منه منيليك الأول الذي يعد أول السلالة السليمانية التي حكمت إثيوبيا لاحقاً لمئات السنين وترى هذه السردية أن “ماكيدا” تعد بمثابة الأم الأولى للإثيوبيين.
وفي تقرير نشرته مجلة “أنشينت أوريجينز” البريطانية للباحث المتخصص في دراسات الآثار وو مينغرين، يقول “على رغم ارتباط ملكة سبأ بالجانب الديني لدى معظم الشعوب باعتبارها مذكورة في النصوص اليهودية والمسيحية والإسلامية، فإنها في الحبشة تأخذ بعداً آخر بحيث تقدم كأم للشعب”.
ومن هنا يمكن فهم البعدين السياسي والوطني لهذه السردية واستغلالها لقرون مضت كعامل مهم لشرعية الممالك التي حكمت الحبشة، إذ تربط ملوكها بالسلالة السليمانية المنحدرة من ملكة سبأ ونبي الله سليمان.
ويبقى السؤال الأهم حول لغز الموقع الجغرافي للملكة التي ذاع صيتها، إذ تزعم الرواية الحبشية أن موقعها كان في شمال إثيوبيا الحالية، معتمدة في ذلك على مصادر عدة من بينها زعم المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس من القرن الأول الميلادي الذي أفاد بأن سبأ هي الحبشة.
ويدافع الإثيوبيون لمصلحة فكرة “مجيء ملكة سبأ من أكسوم”، وهي مملكة قديمة في إثيوبيا.
السردية اليمنية
وعلى عكس الزعم الإثيوبي المستند إلى بعض المصادر التاريخية ترتكز السردية اليمنية على أن “سبأ هي مملكة قديمة تقع في الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية، تحديداً في ما يعرف اليوم باليمن”.
وعلى رغم وجود عدد من الأدلة الأثرية التي أظهرت أن هناك بالفعل حضارات قديمة ازدهرت في تلك المنطقة، فإن القطع الأثرية المكتشفة كانت مؤرخة في القرن السابع قبل الميلاد، أي بعد نحو 300 عام من حكم سليمان، بحسب ما يشير تقرير “أنشينت أوريجينز”.
ويطلق اليمنيون بالاعتماد على المصادر العربية والإسلامية على الملكة اسم “بلقيس” في حين تشير المصادر المسيحية إليها باسم “نيكولا”.
بين الحكمة والجمال
تبدو صورة الملكة في المخيال الشعبي الإثيوبي كمصدر للفخر والعزة كونها امرأة أقامت مملكة عظيمة وكانت تتمتع بحكمة عالية وتمتلك دراية واسعة في الأمور العسكرية، مما مكنها من تثبيت حكمها، إلا أن تلك القوة لم تصرفها عن تغليب المصالح ووزن الأمور بحكمة بالغة، وتعتمد هذه الرؤية على تعاملها مع سليمان وكيف أنها تجنبت المواجهة معه وحاولت استمالته بالهدايا والمراسلات.
كما تحتفظ الذاكرة الحبشية بالجانب الجمالي للملكة، فلا يكف المغنون حتى اليوم عن وصف جمال حبيباتهم بجمال ملكة سبأ، كما تذهب الكتب الأدبية والروايات إلى إضفاء ذلك البعد بشكل مكثف باعتبار الملكة إحدى أجمل النساء في التاريخ.
والمفارقة أن تلك الأغنيات والسرديات الأدبية لا تعتمد كثيراً على مسمى “ماكيدا” الوارد في كتب التاريخ الحبشية، بل تستخدم اسم “سابا” أكثر في اختصار لاسم المملكة، بل إن الاسم الأكثر استخداماً للفتيات في الحبشة (سواء إثيوبيا أو إريتريا) هو اسم “سابا”، بينما يبقى اسم “ماكيدا” أسير الدراسات الأكاديمية والكتب التاريخية.
ويجمع كتاب “كبر نقست” الذي يعد بمثابة دستور الممالك الإثيوبية منذ عام 1270 وحتى منتصف سبعينيات القرن الماضي، بين سرديتي العهد القديم والعهد الجديد، مضيفاً إليها بعض المزاعم التاريخية التي تخدم الصورة الحبشية المكرسة عن ملكة سبأ.
أما المخيال اليمني، فلا يختلف كثيراً عن السردية الحبشية إلا في ما يتعلق بموقع المملكة وحدودها الجغرافية واسم الملكة، بينما يتفق الجانبان على حكمتها وقوتها العسكرية، وصولاً إلى جمالها الأخاذ ورحلتها نحو سليمان في بيت المقدس، كما يعد اسم “بلقيس” الأكثر استخداماً بين فتيات اليمن.
ولعل الذاكرة اليمنية تميل كثيراً نحو اعتماد الرواية القرآنية أكثر من غيرها، وهي سردية لا تختلف من حيث الجوهر عن تلك المذكورة في التوراة، إلا في بعض التفاصيل، بحيث تسرد
سورة النمل قصة الملكة التي نقلها الهدهد إلى سليمان، فأخبره أن هذه الأرض تحكمها امرأة “إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم”.
تفاصيل بين الروايتين
بعيداً من نقاط الخلاف والتنازع بين الروايتين الحبشية واليمنية حول مملكة سبأ، فإن ثمة تفاصيل أخرى، إذ يذكر الكاتب الإثيوبي يوسيف لؤل أنه “على رغم تكريس رواية بعينها حول ملكة سبأ من قبل الممالك الحبشية المتعاقبة، حفاظاً على وحدة التاريخ، بالتالي المصير، فإن ثمة روايات أخرى غير رسمية ظلت محفورة في ذاكرة الناس، بخاصة تلك التي تربطها بحضارتي أكسوم ولاستا وغيرهما”.
ويضيف لؤل “بعيداً من الاستغلال السياسي لتلك المملكة التي كانت في القرن الـ10 قبل الميلاد، فإن ارتباطها الروحي يعد مصدراً مهماً بالنسبة إلى الإثيوبيين، إذ تذكر بعض المصادر الدينية المسيحية أن ملكة سبأ تنبأت بظهور السيدة العذراء، بالتالي هناك جانب روحي مهم للمسألة، لا سيما أن الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية التي لطالما تمتعت بمزايا كبيرة من قبل الحكام باعتبارها المعبر الأول عن ديانة الإثيوبيين، تبنت تلك السردية، بل نجد لوحات وجداريات معبرة عن صورة ملكة سبأ على جدران الكنائس الإثيوبية تعود إلى القرن الـ17”.
بينما يرى المؤرخ اليمني عبدالله شيبة، أستاذ التاريخ في جامعة صنعاء، في كتابه “قصة ملكة سبأ بين الأسطورة والتاريخ” أن “أحد أهم العوامل لربط ملكة سبأ بإثيوبيا يعود لسبب سياسي يتعلق بمحاولة تبرير أحقية أسرة معينة بالحكم في إثيوبيا، حيث وفرت هذه القصة الشرعية السياسة والدينية للأباطرة الإثيوبيين للحكم مدى الحياة”، ويعتقد شيبة بأن “دستور عام 1955 في إثيوبيا خير دليل على ذلك، إذ نص على أحقية أسرة هيلا سيلاسي في حكم البلاد باعتبار أنها تنحدر من هيلي سهلي الذي تعود أصوله من دون انقطاع إلى منيليك الأول ابن نبي الله سليمان وملكة سبأ”، بحسب زعمه.
ويعترف شيبة بوجود آثار سبئية تم العثور عليها في عدد من المحافظات الإثيوبية، لا سيما في تيغراي، إلا أنه يستبعد أن تكون إثيوبيا أو تيغراي الموقع الأصلي لمملكة سبأ.