حرية – (27 \1 \2021)
من ساحة لتبادل اللكمات لقاعة لتوقيع الإتفاقات / هل يمكن أن تصبح بغداد مكان اللقاء الامريكي الايراني القادم ؟
حتى قبل أن يدخل بايدن البيت الأبيض فان الحديث عن العودة للإتفاق النووي أخذ يتصاعد تدريجياً طالما ان هناك رغبات مفهومة ومصرح عنها من قبل واشنطن وطهران للسير بهذا الطريق، بصرف النظر عن المدى الذي كل يود كل طرف الوصول اليه، ولا شك أن الإتفاق على نقطة الرضا المتبادلة لن تكون سهلة، ولا احد متفائل على اتفاق قريب وسريع طالما ان مناخات عام 2015 تختلف كثيراً عنها عام 2021، خصوصاً وان هناك مطالب جديدة معروضة على الطاولة كاذرع طهران ونفوذها على بعض عواصم الشرق الأوسط إضافة لملف الصواريخ الباليستية.
(الدور لن يأتيك طائعاً / تقدم خطوة نحوه)
في ظل الرغبات المتبادلة سيسعى الطرفان (واشنطن وطهران) لايجاد منطقة لقاء تمهد لطاولة معلنة، وهناك أكثر من ساحة قد تصلح لذلك فاذا كانت مسقط ملعب الاشواط التمهيدية لاتفاق 2015، بوصفها كواليس اللقاءات السرية، فان المرحلة الان قد لا تحتاج لمثل تلك الكواليس، طالما ان اللقاء الامريكي الايراني المباشر قد حدث سابقاً، وهذه النقطة ربما فهمتها قطر بشكل جيد لذلك قدمت نفسها راعياً لحوار ايراني خليجي الذي بالضرورة أو من ضمن أجندته التمهيد لحوار امريكي إيراني على الملف النووي؛
وهنا تبدو الدوحة ساحة متميزة تملك مواصفات النجاح خصوصاً وقد كانت راعية لحوارات متعددة بين واشنطن وطالبان كمثال، وربما تفضلها طهران لتقويتها في مقابل الرياض، لكن مثل هذا الدور الذي تسعى له الدوحة قد تعارضه الرياض، وتفضل عليه بغداد على ضوء التصاعد المتدرج في الانفتاح المتبادل بين البلدين، واغراءات الإستثمار في الساحة الإقتصادية العراقية كمشروع بادية السماوة.
حين قدمت قطر نفسها لهذا الدور فهي تسعى لتأثير وعودة اقليمية بعد إنكفاء بسبب المقاطقة السعودية، فادراك الدور والحاجة له والمنفعة منه يبدو أكثر إقناعاً من القول ان المبادرة القطرية أتت بطلب أمريكي.
القاعدة التي يمكن أن تكون دليلاً في العلاقات الدولية، هي ان االدول وإدراكها لمصالحها وكينونتها هو ما يدفعها لإعادة رسم حركتها وتحديد نقاط تموضعها في خارطة الفعل الدولي أوالاقليمي، الدورلن يأتي الدول طائعاً دون حركة ذكية ومرسومة ، ولن يمنحه أحد إن لم تتحرك نحوه الدولة نفسها.
(بغداد وإعادة التموضع / الفرصة في متناول اليد)
العراق معني أكثر من غيره من الاطراف الإقليمية الأخرى في تبريد سخونة الصِدام الامريكي الايراني، فطالما كان ضحية الصراع والتصعيد بينهما، والسؤال هل يمكن أن تصبح بغداد نقطة لقاء أمريكي إيراني بدلاً من أن تبقى ساحة مبارزة ورسائل بنكهة البارود؟
قيام بغداد بلعب دور الوسيط ومنطقة لقاء تبدو أكثر إغراءً من سلبية إنتظار ما ستسفر عنه جولة المحادثات الجانبية والمباشرة في أروقة دول أخرى، وتبدو بغداد مهيئة في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً بعد أن طرحت مشروع (المشرق الجديد)، الذي لا يقتصر على انفتاح محدود على عمان والقاهرة، بل في عمقه رؤية لمشهد مختلف في الشرق الأوسط وتبريد لنقاط التصادم بين دوله باتجاه تقديم علاقات التعاون بعد عقود من علاقات الصراع، وقد يكون خافياً ان بغداد لعبت في الفترة البسيطة الماضية، وبشكل غير معلن وفي الكواليس، أدواراً في ترطيب العلاقات بين بعض عواصم المنطقة، والأكثر الدور الذي لعبته بغداد في منع أو تأجيل ضربة رد أمريكي واسعة على أثرعملية القصف الأخيرة للسفارة الامريكية في بغداد؛
وللوصول الى نقطة تموضع جديدة لبغداد ودور أكثر فعالية في المشهد الإقليمي عموماً وفي الحوار الامريكي الإيراني خصوصاً لا بد من خطوات تقوم بها بغداد:
أولاً وإبتداءً يجب أن يكون مفهوماً لصانع القرار الرسمي في بغداد، ان نقطة الشروع يجب أن تبدأ من إدراك مفاتيح اللعبة بين واشنطن وطهران، فالتصعيد المسيطر عليه في السنة الأخيرة لم يكن يهدف للمواجهة المباشرة بقدر ما كان يهدف لتهيئة طاولة المفاوضات، فترامب كان يهدف للردع والضغط العسكري المحدود لتفعيل أكبر لسياسة الضغوط الاقتصادية القصوى لإجبار طهران على مفاوضات من موقع القوة، وطهران من جانبها قبلت مضطرة دفع الكلف الإقتصادية المرهقة لشعبها على المواجهة المفتوحة، والرد المحدود على حادثة إغتيال سليماني إنتظاراً لتبدل سيد البيت الأبيض للبدء بمفاوضات، لكن طهران تدرك أيضاً إن بايدن مع تصريحه برغبته بالعودة للإتفاق النووي غير انه لن يضحي بالمكاسب التي حققتها سياسة الضغوط القصوى، ولا عودة مباشرة للإتفاق النووي بنسخته السابقة، لذا بدأت طهران ترفع سقوفها عبر رفع نسبة تخصيب اليورانيوم والمناورات العسكرية كتلويح بالقدرات لحلفاء واشنطن في المنطقة.
النقطة الثانية، على صانع القرار في بغداد، إدراك مكانة العراق الستراتيجية وماهيته بعيداً عن خطاب التبخيس الذاتي والبكائية المتداولة، فضلاً عن ان الدور المطلوب لا يتوقف عند صورة حامل الرسائل وساعي البريد، فقبول الدور الهامشي سيفشل كل مساعي الإنتقال من دولة متلقية لدولة فاعلة.
النقطة الثالثة، على صانع القرار الرسمي (الحكومة) إدراك قدرات الدولة المتاحة لديه واستثمار الشرعية التي يملكها امام الفاعلين المحليين غير الرسميين (بعض مراكز القوى المسلحة)؛
حسم النزال بين صانع القرار الرسمي والفاعلين المحليين وارغامهم بالقبول بقرار الدولة بالإحتواء والسياسة (وهو الخيار الأفضل والمقدم) ، أو بالتلويح باستخدام العنف المشروع للدولة هو نقطة الحصول على صورة الدولة، والوصول الى المصداقية الدولية والشعبية، ونقطة التموضع الجديدة والوصفة الشافية لظهورعراق معافى وقادر على لعب دور إقليمي ، وفي المقابل فإن الإستسلام لمقولات الحرب الأهلية وهشاشة الدولة، ليست سوى رضوخ للعجز وعدم إنفاذ إرادة الدولة وتعطيلها.
رابعاً، حسم النزال والصراع الداخلي يحتاج ابتداءً و تزامنياً، الى (دبلوماسية داخلية) نشطة وفعالة وسريعة تقودها الحكومة ، وضرورة إطلاق (حوار وطني)، ومع ان تجارب الحوارات الوطنية السابقة لم تكن مشجعة ، وتوقفت مخرجاتها على مراسيم المجاملة وبروتكول الشاشة، غير أن المشهد تغير بعد تظاهرات تشرين، واضيف لاعب جديد له حق التواجد في المراسيم وصياغة صفقة مستقبلية للعراق (عقد سياسي جديد)، قد يساعد على تحقيقه إدراك القوى السياسية ان النقطة التي وصلها العراق لن تحتمل معادلة (رابح خاسر)،لانها تعني بالنتيجة (خاسر خاسر)، لكنها في الوقت الراهن لن تكون خسارات جزئية بل خسارة العراق وما بقي منه فوضع العراق الحالي غير قابل لطيش المغامرات، ولا بد من تحقيق صفقة شاملة قائمة على معادلة (رابح رابح)، والسؤال المطروح على القوى السياسية، هل هي مستعدة للتفريط بمكاسبها الذاتية في حال إنزلاق العراق للفوضى؟ وهل هي مستعدة لمواجهة قدرات الدولة المدعومة بتأييد شعبي متى ما اتخذ قرار تصيفة الإنفلات لصالح النظام والاستقرار ولصالح وجود الدولة وآمان المواطن وآمنه؟
خامساً، البدء بدبلوماسية فاعلة وسريعة على مراكز التأثير الإقليمي والدولي لإقناعها بالدور العراقي الجديد، ومعادلة عراق ضعيف غير مستقر لم تؤدي سابقاً لاستقرار المنطقة واستقرارهم، واللعب باستقرار العراق لم يجلب لهم إلا أوهام منافع، ولجرد خسائرتلك الدول يكفي لمعرفتها النظر لاوضاع ايران وسوريا ولبنان واليمن والفاتورة التي دفعتها السعودية والقلق الذي تعيشه تركيا مع كل إدعاءات القوة من تلك الدول، لكنها تبقى إدعاءات أكثر منها حقائق اقتصاد وتنمية.
الدبلوماسية والحركة على مراكز القرار الإقليمي يجب أن لا تتوقف عند حدود الدرس التأريخي واجترار ما حدث والخسائر الكلية للاطراف المتصارعة، بل ضرورة إرتكازها لمكاسب وفوائد ملموسة تستحصلها تلك الدول، والإقتصاد هو الساحة الأكثر عملية لرفع الموانع السياسية لإتمامه، ويملك العراق نقطة إرتكاز قد تتمحور حوله دول الإقليم، والمقصود هنا مشروع (ميناء الفاو الكبيروالقناة الجافة والربط السككي)، الذي قد يتحول من مشروع عراقي خالص معاق، الى مشروع إقتصادي دولي مشترك ناهض يحافظ فيه العراق على الحصة الأكبر.
مشروع الفاو الكبير وملحقاته المفتاح الذهبي لحركة العراق السياسية والإقتصادية المستقبلية ولا يجب أن يبقى أسيراً لفلسفة الملكية الحصرية للعراق، فالمصالح الإقليمية والدولية اثبتت نجاحها بايقافه طوال السنوات الماضية، وحان الوقت ليصبح نقطة لقاء سياسي لدول المنطقة على قاعدة المنافع الإقتصادية المشتركة.
الفرصة اليوم متاحة لتاثيث المسرح العراقي بشكل جديد، من كونه حلبة لتبادل اللكمات وملابس الحرب ورائحة البارود الى غرف تشريفات باذخة بالمصافحة والدبلوماسيين لتبادل المصالح وعقد الإتفاقات.