حرية – (21/12/2022)
قد لا يعلم كثير من الناس أنه في جزء ما من هذا العالم ثمة من يعيش الآن في الشهر الرابع من عام 2015، وفق التقويم الرسمي المعتمد في دواوين الدولة وكذلك في المرافق الشعبية والدينية، لا سيما الكنائس.
التقويم المشار إليه، هو “التقويم الجعيزي” الذي يُعرف أيضاً باسم “التقويم الحبشي”، والمستخدم في كل من إثيوبيا رسمياً وفي إريتريا على المستويين الشعبي والروحي.
ويُحكى أن هذا التقويم مشتق من التقويم الشمسي المصري ولكنه يضيف يوماً كبيساً كل أربع سنوات.
ومثلما هي الحال في التقويم القبطي المصري، يتألف التقويم الحبشي من 12 شهراً، إذ يتضمن كل منها 30 يوماً، مع شهر إضافي يتكون من خمسة أو ستة أيام فقط، اعتماداً على السنة، أي في التقويم الحبشي، ثمة 13 شهراً مع 12 شهراً جميعها لها 30 يوماً، وشهر واحد مع خمسة أو ستة أيام فقط.
والمفارقة أن شهور هذا التقويم تبدأ من سبتمبر (أيلول)، كأول شهر في السنة، وهذا يتطابق مع التقويم القبطي، لكن مع اعتماد تسميات اللغة الجعيزية لكل شهر، وهي اللغة القديمة لشمال إثيوبيا وإريتريا.
لوحة معبرة عن طقوس احتفال الإثيوبيين بالشهر الـ13
حكاية التقويم
يذكر رجال الكنيسة الأرثوذكسية الحبشية، أن هذا التقويم يعتمد على ولادة يسوع، حيث يستخدم “عصر التجسد” للإشارة إلى السنة التي شهدت البشارة بولادة يسوع في 25 مارس (آذار)، أي عام تسعة ميلادي في التقويم اليولياني (الجولياني)، في حين اعتمد الأوروبيون حساباً مختلفاً للبشارة قبل ذلك بثماني سنوات، مما يعني أن هناك فجوة تبلغ ثماني سنوات بين بداية التقويم الحبشي والتقويم الميلادي (الإفرنجي). لذلك من الواضح أن معظم الأعياد الدينية المسيحية الكبرى تحدث في أيام مختلفة تماماً، فمثلاً عيد الميلاد الذي بدلاً من أن يكون في تاريخ 25 ديسمبر (كانون الأول) لكل الطوائف المسيحية، يتم الاحتفال به في السابع من يناير (كانون الثاني) وهو اليوم الذي تعتبره الكنيسة الأرثوذكسية الحبشية في إثيوبيا وإريتريا عيداً لميلاد السيد المسيح.
ويقول الباحث الإثيوبي أفريم إسحاق “إن التقويم الحبشي فريد من نوعه، لجهة أنه لا ينتمي إلى جوليان ولا إلى التقويم اليوناني”. وفي حين تشير الأدبيات التاريخية إلى أن تقويمات العالم بأسره تستند إلى أعمال علماء الفلك المصريين القدامى الذين اكتشفوا منذ ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف قبل الميلاد، أن السنة الشمسية أو الفلكية استمرت أقل بقليل من 365 يوماً، يقول أفريم “إن كثيراً من الناس يفترضون خطأً أن التقويم الحبشي في الأصل جولياني”، مضيفاً أن “التقويم الغريغوري هو في الواقع مراجعات للتقويم اليولياني، التي قام بوب غريغوري بتحريرها أو تحديدها وفقاً لحسابات معينة”.
الحبشي الأقرب لميلاد المسيح
وبحسب دراسة نشرها أفريم، منذ سنوات في مجلة “هيرمال”، فإن “هناك خمس سنوات فرق بين التقويم الغريغوري وولادة يسوع المسيح، بينما هناك ثلاث سنوات فقط بين التقويم الأخير والتقويم الحبشية. وبناء على ذلك، يقول “يعتقد عديد من العلماء بمن فيهم أنا، أن التقويم الحبشي هو أقرب بكثير إلى ولادة يسوع المسيح، من غيره من التقويمات”، مؤكداً أن ذلك يعد أحد الموروثات القديمة الفريدة التي أسهمت بها الحبشة التاريخية للعالم بأسره”.
ويبني البروفيسور الإثيوبي دراسته على مرجع تاريخي، يعرف بـMetsehafe-Hissab (كتاب الحساب)، الذي يضم مشتقات التقويم اليهودي السكندري، إضافة إلى التقويمات الأخرى التي تعتمد على 12 شهراً، كل منهما يحوي 30 يوماً، مضافاً إليها شهر واحد بأقل من ستة أيام، وهو الشهر المقدس في الثقافة الحبشية، الذي يُعرف بـ”باغومن” Pagumen، وهو الشهر الـ13 الذي يتكون من خمسة أيام أو ستة أيام في كل سنة كبيسة.
وإضافة إلى Metsehafe-Hissab، يؤكد أفريم أن ثمة مراجع أخرى منها كتاب مشهور جداً يسمى “Metsehafe-Henok” (كتاب أخنوخ) يوجد فقط في إثيوبيا مع فصول تتناول بعض الحسابات للسنوات. فضلاً عن كتاب آخر اسمه “أبو شقير” يرجح أنه أتى إلى إثيوبيا من أصول قبطية مصرية.
إن الإثيوبيين الذين حافظوا على تراثهم التاريخي يبدون أكثر فخراً بهذا الاختلاف عن العالم
ترسيم التقويم الحبشي وعزلة القبطي
بدوره يرى الباحث المصري إيليا جورج أن “تقويم الكنيسة الإثيوبية جاء في الأساس من مصر” وأن الأساليب والتواريخ تتوافق مع تقويم الكنيسة القبطية، لكن يختلف التقويمان من حيث أيام القديسين ووقت حفظها. وتحتوي سنة التقويم الحبشي على 365 يوماً يضاف إليها كل أربع سنوات يوم إضافي. يتم تخصيص كل عام في فترة الأربع سنوات هذه لواحد من الإنجيليين الأربعة الذين جاءوا وفق الترتيب التالي: متى ومرقس ولوقا ويوحنا. سنة لوقا هي السنة الكبيسة الإثيوبية، وهي السنة التي تسبق السنة الكبيسة الغربية، ويقول جورج “إن ثمة قطعة أثرية من كنيسة التوحيد الإثيوبية الأرثوذكسية تؤكد هذا الزعم”.
ويشير جورج إلى أن “التقويم القبطي بقي أسير الكنائس والأديرة الدينية، فيما وجد التقويم الحبشي فرصة أن يتحول إلى دواوين الدولة التي تبنت المذهب الأرثوذكسي كديانة رسمية للمملكة الإثيوبية، وبالتالي اتخذ بعداً رسمياً وفرصة للتداول خارج الإطار الديني”.
طفلة إثيوبية تحتفل بالسنة الإثيوبية الجديدة مع شعار عباد الشمس الذي يعبر عن رمزية السنة الجديدة في الحبشة
حسابات التوقيت المربك
ارتباطاً بالتقويم السنوي، ثمة أمر آخر يتعلق بالوقت حيث يعتمد الأحباش على توقيت خاص، فاليوم منقسم بشكل متساوٍ بين ساعات الليل والنهار، حيث يبدأ اليوم عند شروق الشمس، ويكون الغروب هو نهاية اليوم، ويكون لكل من الشمس والقمر المستخدمين لحساب الوقت 12 ساعة لكل منهما.
وبالتالي فإن لحظة الشروق الساعة 6:00 صباحاً في أماكن أخرى من العالم، تُعد في إثيوبيا الساعة 12:00، لتكون أول ساعة في اليوم هي بداية التوقيت الواحدة (أي السابعة صباحاً في بقية توقيتات العالم). وعندما تغرب الشمس تكون الساعة 12:00 وهي إيذان بنهاية اليوم، ودخول الليل من بداية الساعة الواحدة (السابعة في بقية العالم)، وبالتالي تشير إلى بداية التوقيت الليلي، فغروب الشمس يعني بداية حساب الجزء الآخر من اليوم وهو الليل وكأن الكون يبدأ حسابه بشكل جديد في إطار القسمة العادلة بين النهار والليل، وبالتالي فهي الساعة الأولى من الليل .
قد يبدو الأمر مربكاً بشكل كبير لمن اعتاد على الخشبة المعهودة، لكن من المؤكد أن التوقيت الحبشي غير المعهود يبدو أكثر بساطة من ذلك الذي اعتاد عليه العالم، فكل بداية بالضرورة تعني الرقم واحد، وليس الرقم السابع.
ورغم الإرباك الذي يمكن أن يشكله هذا التوقيت إضافة إلى التقويم السنوي الحبشي لأي وافد أو متابع لإحداثيات منطقة الحبشة، فإن الإثيوبيين الذين حافظوا على تراثهم التاريخي يبدون أكثر فخراً بهذا الاختلاف عن العالم، ويعتبرون ذلك ميزة حضارية وتاريخية، مضافاً إليها الأبجدية الجعئزية وحرف المسند الذي اندثر عن التداول من معظم المناطق التاريخية التي استخدمته سابقاً كاليمن، بينما بقي في كل من إثيوبيا وإريتريا، محافظاً على مكانته وتميزه. بقي أن نشير إلى أن اليوم تاريخ نشر المقال “الأربعاء 21 ديسمبر (كانون الأول) 2022 يوافق 12 أبريل (نيسان) 2015 في التقويم الحبشي”.