حرية – (25/12/2022)
تعتبر مشكلة تربية الطفل العربي في أوروبا وتعليمه من أبرز التحديات التي تواجهها العائلات العربية المهاجرة، لا بل كثيراً ما تقف عائقاً أمام هجرة البعض، خوفاً مما يسمونه بتأثير التربية والتعليم الغربيين على أطفالهم، في حين تنظر عائلات عربية أخرى إلى تلك المدارس على أنها ترسخ التقاليد البالية وتمنع الأطفال من الاندماج في مجتمعهم الجديد، وتثير التفرقة.
لذلك يبحث المهاجرون العرب دائماً عن ملاذ لأنفسهم ولأولادهم من الاغتراب الثقافي عبر الانخراط في المجتمعات العربية الصغيرة التي وجدت لنفسها مكاناً في الدول الأوروبية والمشاركة في تلك التكوينات العربية الصغيرة المنتجة من قبل هذه المجتمعات.
وتعتبر المدارس العربية واحدا من تلك النتاجات العربية في أوروبا، التي تهدف إلى الإحاطة بالطالب العربي وحماية لغته وثقافته وعاداته، كونها جزءاً من الهوية العربية والمسلمات التي تربى عليها العرب.
“تكمن أهمية المدرسة العربية في إيلاء اهتمام خاص بالعلوم الدينية الإسلامية، التي تغيب بشكل كامل عن المناهج الألمانية، وهذه العلوم لا يكفي أن يتم تلقينها للطفل فقط في المنزل أو الجامع”
مواطن ألماني من أصل لبناني
وتتنوع الآراء حول هذه المدارس بين مؤيد يراها حارساً للهوية والثقافة العربية، ومعارض يراها عائقاً في طريق الاندماج، كما تعددت سياسات الدول الأوروبية تجاه هذه المدارس بين حكومات تقدم لها التسهيلات وأخرى تنظر إليها بعين “الإسلاموفوبيا” وتراها خطراً على الأجيال القادمة.
إقبال كثيف من أولياء العرب
وقال مرشد أبو العلاء (47 عاماً) لـ “إرم نيوز”: “لم أتردد أبداً عند اتخاذ قرار إرسال أولادي إلى مدرسة ابن خلدون لتعليم اللغة العربية في برلين، لأن حرصي على تعلمهم اللغة العربية كحرصي على تعليمهم مستقبلاً في أرقى الجامعات الألمانية”.
وأضاف أبو العلاء، وهو ألماني من أصول لبنانية: “لدي 3 أطفال وضعتهم في مدرسة عربية إلى جانب تعليمهم الألماني، لإيماني المطلق بأن اللغة جزء من هويتنا العربية، وهي الوسيلة الأولى لربط المهاجر بوطنه وتاريخه وحضارته”.
وتابع أبو العلاء، الذي يعمل في التصميم الجرافيكي: “رأيت كثيراً من العائلات العربية التي لم يتعلم أطفالها اللغة العربية، إنهم كالأجانب لا يربطهم ببلدهم الأم شيء إلا الوثيقة، هم فاقدون للهوية الأم، لأن الإنسان دون لغته الأم يصبح بلا تاريخ وهوية”.
ويرى مرشد أن “المدرسة العربية صمام أمان للعلاقات والعادات العربية أيضاً، فعبر المدرسة العربية يتعرف أطفاله على أصدقاء عرب، وبالتالي يحافظون على التواصل مع أبناء جلدتهم”.
وهنا قال: “تكمن أهمية المدرسة العربية في إيلاء اهتمام خاص بالعلوم الدينية الإسلامية، التي تغيب بشكل كامل عن المناهج الألمانية، وهذه العلوم لا يكفي أن يتم تلقينها للطفل فقط في المنزل أو الجامع”.
“تقدم هذه المدارس للأطفال العلوم اللغوية والشرعية خلال أيام محددة في الأسبوع، وتلقنهم السلوك الرصين الذي يعكس الحضارة والثقافة والعادات العربية”
مُدرسة ألمانية من أصول سورية
وأضاف أبو العلاء: “تفيد هذه المدارس أيضاً في تحسين مهارات اكتساب الطفل للغات بشكل عام، وبالتالي فهي تفيده في سرعة تعلم اللغة الألمانية أيضاً”.
وأظهرت دراسة ألمانية قامت بها أكاديمية “لايبزيغ” للعلوم، أن “تنمية اللغة الأم هي مساهمة ممتازة في اكتساب اللغة الألمانية”، ووصلت الدراسة إلى هذه النتيجة بعد بحث أجرته استهدف 120 طالبًا من الأجانب يعيشون في ألمانيا.
صلة الرحم مع الوطن
وتشهد المدارس العربية في مدن مثل برلين وباريس والمدن الأخرى التي تشهد تواجدًا كبيرًا للجاليات العربية، إقبالًا كبيرًا على هذه المدارس العربية، لذلك يتوجب على الطالب أن يسجل في المدرسة العربية قبل الموسم الدراسي بفترة زمنية طويلة ليحجز مقعدًا، وتصل هذه المدة إلى سنة أحيانًا.
وقالت المُدرسة بنان قارسلي، لـ “إرم نيوز”: “درّست في عدد من المدارس العربية في برلين مثل قرطبة وابن خلدون، ولمست الرغبة لدى العائلات العربية في ارتياد أبنائها هذه المدارس، كونهم يعتبرونها صلة الرحم مع اللغة والدين”.
وأضافت قارسلي، وهي من أصول سورية: “المهاجر الذي يعيش في أوروبا، يبحث بشغف عن روابط تجمعه بتاريخه وعاداته وإرثه الحضاري، لذلك يجد الأهالي في هذه المدارس كياناً يخلق هذا الرابط بين أبنائهم والوطن الأم واللغة الأم”.
وبحسب قارسلي، “تقدم هذه المدارس للأطفال العلوم اللغوية والشرعية خلال أيام محددة في الأسبوع، وتلقنهم السلوك الرصين الذي يعكس الحضارة والثقافة والعادات العربية”.
تمنح معظم الحكومات الأوروبية المدارس العربية ترخيصاً على أنها مركز ثقافي أو مركز تأهيل، وتتفاوت درجة تقبل هذه الحكومات لهذا النوع من المدارس
وتابعت: “هي بمثابة حصة دراسية في أرض الوطن، ونساهم في خلق جو المدرسة العربية بكل مكوناته، مع إيلاء اهتمام خاص بالعلوم الدينية الإسلامية”.
وختمت حديثها بالقول: “تمنح المدرسة العربية الطالب العلوم والسلوك اللازم ليقوم بمهمته في تصدير الصورة الإيجابية عن الثقافة والعادات العربية، والصورة الحقيقية للإسلام والشريعة الإسلامية”.
حكومات تشجع وأخرى لا ترحب
تمنح معظم الحكومات الأوروبية المدارس العربية ترخيصاً على أنها مركز ثقافي أو مركز تأهيل، وتتفاوت درجة تقبل هذه الحكومات لهذا النوع من المدارس.
ففي فرنسا، أعلن وزير التربية والتعليم ميشيل بلانكيه، دعمه تعليم اللغة العربية في فرنسا، بهدف محاربة ما سماه “الإسلام المتطرف”، ورأى أن تعليم اللغة العربية في المدارس “سيقطع الطريق على المساجد والمراكز الدينية التي تقوم بهذا الدور”، بحسب تعبيره.
بينما تتبع بعض الدول مثل هولندا والسويد، سياسة عدم الترحيب بهذا النوع من المدارس، لأنها ترى فيها عائقاً أمام دمج الأجيال القادمة بالمجتمع الجديد.
وحذر برلمانيون في السويد من المدارس العربية والمدرسين العرب، لما من الممكن أن يقوموا به من “تأثير سياسي وديني على الطلاب”.
وفي النرويج، حذرت الهيئة التشريعية للبرلمان من أن المدرسة العربية “ستمنع الأجيال القادمة من المهاجرين من تعلم اللغة الجديدة وستعيق اكتسابهم مهاراتها”.
“كل ما تقوم به هذه المدارس هو زيادة التعصب الديني لدى الأجيال وترسيخ العادات العربية البالية التي لا تصلح للعيش هنا”
مواطن سويدي من أصول عربية
منابر للتعصب والانعزالية
ليست الحكومات وحدها من ترى في المدارس عائقاً نحو الاندماج أوروبياً، بل تبنى بعض العرب هذا الرأي ونأوا بأطفالهم عن هذه المدارس، رغبة منهم في إزاحة أي عائق في طريق اندماجهم بالمجتمع الجديد، بحسب تعبيرهم.
وقال السويدي عفيف عبود (45 عاماً) لـ “إرم نيوز”: “كل ما تقوم به هذه المدارس هو زيادة التعصب الديني لدى الأجيال وترسيخ العادات العربية البالية التي لا تصلح للعيش هنا”.
وأضاف عبود، المقيم في مالمو منذ 15 عاماً: “الطريق الصحيح للعيش في أوروبا هو الاندماج بالمجتمع الأوروبي ونسف كل عوامل العزلة والنأي بالنفس عن الآخرين، وهذا ما أحرص على تهيئته لأطفالي”.
ولدى عفيف طفلان يدرسهما في المدارس السويدية ولا يعير أي اهتمام لتهيئة أجواء عربية لهما، بل يشجعهما على التعرف على الثقافات الأخرى والتعلم منها.
وأوضح: “أعلمهم الالتزام الديني ونتحدث العربية في المنزل، وهذا كافٍ، حياتهم الدراسية ومستقبلاً العملية يجب أن تكون جزءاً من المجتمع الذي يعيشون فيه، كي لا يشعروا بالاغتراب”.
وتابع: “هذه المدارس العربية ترتبط دائماً بتوجه ديني معين، وأحياناً طائفة معينة، لأن معظمها تتبع للمساجد، وتقسم في بعض الأحيان لمدارس سنية وأخرى شيعية، ما يجعلها منبراً للتفرقة”.