حرية – (2/1/2023)
هويته مجهولة ولكنه بريطاني على ما تذهب روايات كثيرة عنه
طفلة تفتش رجل أمن يرفع يديه ويدير ظهره إلى الجدار. رضيع يسد فوهة جندي مدجج بزهرة. هذه الأعمال بريشة بانكسي في معرض يقام ببيروت (يفتح أبوابه إلى نهاية يناير “كانون الثاني” 2023). وهو يظهر في بعض الجداريات إن لم يكن عمومها بعداً آخر لحياة بديلة أو موازية يكون فيها الطرف الأضعف صاحب الحيلة والكلمة الأخيرة له فلا تقوم قائمة لحملة السلاح، ولو كان نظامياً. فرسام الغرافيتي الأشهر يسخر من تعليمات منع الرسم على الجدران ويضع زجاجة دهان “للرش” في قلب إشارة المنع.
ويبدو بانكسي في مصاف فنان ملتزم يرفع لواء حقوق المضطهدين ويوجه السهام إلى “الرأسمالية” وإلى الناشطين المناوئين لها وهم أبناؤها. فيصور مجموعة من الأشخاص، وأحدهم يشي الرسم أنه من “البانكس”، تصطف لشراء قميص مكتوب عليه “دمروا [لتسقط] الرأسمالية” سعره 30 دولاراً أميركياً. والرسمة بالأبيض والأسود فيما خلا القميص فأحمر اللون.
وديدن بانكسي انتقاد المجتمع المعاصر وتهافت الحدود بين الدائرة الخاصة والعامة وانشغال الأنظار بالهواتف المحمولة، وهو على رغم ذيوع صيته مجهول الهوية وغفل لا يعلم أحد اسمه ولا كنيته. فيصور رجل وامرأة يتعانقان ويوشكان على تبادل القبل وكل منهما ينظر إلى هاتفه وكأنه طرف في ما يجري وكأن الحياة في مكان آخر، على ما وسم الروائي ميلان كانديرا رواية من روايته، وكأن الحياة الحميمية لم تعد خاصة. على الجدار رفعت عبارات بالإنجليزية وتحت بعضها ترجمتها بعربية تنصب المبتدأ أو ترفع الحال منها “لا أعلم لما الناس متحمسون جداً لنشر تفاصيل حياتهم الخاصة، وينسون أن الاختفاء هو قوة خارقة”.
بانكسي ينتقد أشكال الحياة المعاصرة وكأن لسان حاله الحياة ليست في مكان آخر
وفي رسوماته، يتناول بانكسي صوراً هي علامة على النصر الأميركي من جهة، وأخرى هي علامة على وحشية هذا المنتصر. فيختار مثلاً صورة معركة إيوجيما في اليابان في الحرب العالمية الثانية، وهي معركة لا تزال شاغل الأميركيين إلى اليوم ويقال أنها كانت منعطفاً في الحرب. فعلى سبيل المثل، قام كلينت إيستوود بإخراج فيلمين عن المعركة، واحدة تنقل مروية الأميركيين عنها، والثانية سردية اليابانيين باللغة اليابانية عنها. وصورة النصر الشهيرة تظهر جنود البحرية الأميركية يغرسون العلم الأميركي فوق جبل سوريباشي. أما عمل بانكسي فهو يحاكيها محاكاة ساخرة ويظهر المقلب الآخر من الفخر أو النصر الأميركي في الخارج: ففي الداخل ليست البطولات صنيعة المارينز أو الجنود بل تقتصر على شباب يعتلون سيارة ويرفعون عليها علم بلادهم في إشارة منه إلى انسداد أفق النصر والإنجاز.
ويصلي بانكسي على ما تقدم الحروب الخارجية الأميركية النقد. فيحاكي صورة لعلها الأكثر شهرة من حرب فيتنام، وهي “فتاة النابالم”، ويدخل عليها الفأر ميكي ومهرج ماكدونالدز، فيمسك كل منهما بيديها وكأن رموز الرأسمالية الأميركية تصطحبها إلى حفل وكأن نجاتها هي فحسب دخول في عالم الاستهلاك.
وإلى المحاكاة الساخرة للقوة الأميركية العسكرية والرأسمالية، لا ينسى بانكسي الضعفاء في العالم، فيصور في جدارية من جدارياته عاملة منزلية وهي تكنس بيتاً فترفع حائطه الأبيض لترمي هناك قاذورات جمعتها في التنظيف وتظهر أحجار طوب حمراء اللون فيتساءل المرء إن كان يشير إلى الجدار الأحمر على ما تعرف مناطق حزب العمال البريطاني وإن كان يوجه سهام النقد إلى سياسات هذا الحزب.
والسلام في إسرائيل وفلسطين شاغل بانكسي. فهو قصد رام الله بعيد إنشاء الجدار الفاصل ورسم على الجدار (ولم يقبله مثل مجنون ليلى) كوة هي في مثابة نافذة تظهر ما وراءه، وسلماً يفضي إلى ما بعده. وانتقد السلام المجهض فرسم حمامة سلام في مرمى قناص.
وتظهر جدارية أخرى فدائياً تلتف كوفية على عنقه يخوض معركة مع جندي مدجج شأنه بوسائد فيتناثر الريش منها في مشهد سوريالي ينقل المواجهات العنيفة إلى عالم من طينة الحلم والعالم الحميم.
لم يسلم وينستون تشرشل من “ريشة” بانكسي بعد الطعن في إرث المملكة المتحدة الإستعماري
وهوية بانكسي مجهولة ولكنه بريطاني على ما تذهب روايات كثيرة عنه. لذا، الشأن البريطاني ماثل في أعماله. فعلى سبيل المثل، يحل وينستون تشرشل في جدارية “بانكسية”، نسبة طبعاً إلى بانكسي إذا جاز القول. فهو يحاكي أشهر صور رئيس الوزراء البريطاني الذائع الصيت ويستر صلعته قطعة تشبه العشب الأخضر ولكن أوجه الشبه بينها و بين فروة رأس بعد سلخها كبير، وهذه عادة درج عليها قوم الموهوك، بعد تلطيخ محتجين تمثاله في ساحة البرلمان البريطاني للاحتجاج على إرث المملكة المتحدة الاستعماري. والملكة البريطانية تظهر في إحدى الجداريات وكأنها تؤدي دور المهيمنة Dominator السادية المازوشية في عالم الإباحيات.