حرية – (2/1/2023)
الولايات المتحدة تشق طريق العودة إلى القمر. فبعد نجاح مهمة “أرتميس 1” (Artemis 1) التي تستخدم “نظام الإقلاع الصاروخي” Space Launch System (SLS) الخاص بـ”ناسا”، وهو أكبر صاروخ طور على الإطلاق، في تنفيذ رحلة غير مأهولة حول القمر مع العودة إلى الأرض من دون عقبات تذكر في 2022، تستعد “أرتميس 2″ لإجراء تجربة هبوط كاملة على سطح القمر في 2024. وفي حال نجاح هذه المهمة، يتوقع لـ”أرتميس 3” أن تعود برواد الفضاء إلى سطح القمر في 2025، أي بعد مرور أكثر من 50 عاماً على آخر هبوط للإنسان على القمر.
ففي أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الـ20، انطلق برنامج “أبولو” نحو القمر محملاً بـ12 رائد فضاء – جميعهم من الرجال البيض. ولكن هذه المرة، سيكون هبوط “أرتميس” على القمر مختلفاً، بحيث إنه سيتيح لامرأة وشخص من أصحاب البشرة الملونة السير على سطح القمر. ومن المحتمل أن تكون المرأة هي نفسها الشخص الملون.
وأصبحت نيكول أونابو مان أول امرأة أميركية من السكان الأصليين تصعد إلى الفضاء في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2022، تاريخ بدء مهمتها التي تستغرق خمسة أشهر في “محطة الفضاء الدولية” (ISS). يومذاك وقبل انضمامها إلى المحطة، قالت مان التي تنتمي إلى شعب “وايلاكي” Wailaki من المناطق التي تشكل حالياً شمال غربي كاليفورنيا، إن فكرة أن تصبح رائدة فضاء لم تكن ضمن حدود الممكن بنظرها كفتاة صغيرة. “فقد ولدت عام 1977 وبالنسبة لي، لم يكن هذا الموضوع أمراً وارداً”، في إشارة إلى عرقها وجنسها.
وكانت مان أتمت دراستها في “الأكاديمية البحرية الأميركية” في أنابوليس قبل أن تلتحق بسلاح مشاة البحرية وتحلق بطائرات مقاتلة في العراق وأفغانستان. وفي 2013، اختيرت للمشاركة في برنامج “ناسا” المتخصص في تدريب رواد الفضاء. وعملت على تطوير كل من “نظام الإقلاع الصاروخي” وكبسولة “أوريون” التي سيحملها هذا الأخير لنقل الإنسان إلى القمر. وفور عودتها من “محطة الفضاء الدولية”، ستكون مان واحدة من المرشحات للهبوط على القمر.
ولكنها ستواجه منافسة شديدة لتصبح أول امرأة تطأ أرجلها سطح القمر. وسبق لـ”ناسا” أن أعلنت أسماء الأعضاء الـ18 الأوائل في طاقم “أرتميس” الذي يستعد لعودة الوكالة إلى القمر. وفي صفوف هذا الطاقم تسع نساء، بينهن مان، وكريستينا كوش التي شاركت في أول ثلاث رحلات فضائية نسائية بالكامل، وآن ماكلاين المتمرسة التي أمضت 204 أيام في الفضاء، وجيسيكا واتكينز، لاعبة اتحاد الرغبي السابقة وأول أميركية من أصل أفريقي تنضم إلى “محطة الفضاء الدولية” في أبريل (نيسان) 2022.
“نحن لا نعلم بعد هوية أول امرأة ستطأ سطح القمر”، توضح إيميلي مارغوليس، أمينة تاريخ المرأة الأميركية لدى كل من “متحف الطيران والفضاء الوطني” في العاصمة واشنطن و”مركز سميثونيان للفيزياء الفلكية” في ماساتشوستس، “ولكننا نعلم على وجه اليقين أنها ستكون ماهرة ومتكاملة بشكل لا يصدق، كيف لا وجميع النساء في طاقم ’أرتميس‘ يحملن شهادات علمية متقدمة في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات ومنهن من هن رائدات مكوك وقائدات طواقم تجارية وقائدات طائرات عسكرية مقلدات بأوسمة”.
ومن الإنصاف القول إن “ناسا” – بالتالي الولايات المتحدة – على رغم كل ما حققته من إنجازات رائدة في الفضاء بذلت جهوداً صعبة لإدخال النساء إلى عالم الفضاء. وطبقاً لمارغوليس، “لم تكن النساء يوماً أقل اهتماماً أو قدرة على السفر إلى الفضاء. وفي نهاية المطاف، قبلت ’ناسا‘ أول امرأة في عداد رواد الفضاء عام 1978، بعد مرور 20 عاماً على إنشائها. وعلى رغم أن الوكالة لم تمنع النساء صراحة من التقدم بطلب للحصول على وظيفة رائد فضاء، لكن المتطلبات والمعايير التي كانت تفرضها على المتقدمين استبعدتهن ضمنياً. وفي ذلك الوقت، كان الطيارون التجريبيون العسكريون وحدهم المؤهلين ولم تكن هذه المهن متاحة للنساء بإيعاز من الجيش. لكن مع مرور الزمن، تغيرت متطلبات الأهلية لرواد الفضاء وتغيرت ذهنية المجتمع واعتباراته للمهن التي تليق بالنساء. لذلك عندما أطلقت الوكالة دعوة إلى تجنيد جيلها الأول من رواد مكوك الفضاء، تعمدت، وللمرة الأولى في تاريخها، تعيين عناصر نسائية”. وكان ذلك عام 1978.
ويعتقد بعض المعلقين بأن وكالة “ناسا” كانت مترددة في إرسال نساء إلى الفضاء الخارجي خوفاً من هول الانتقادات التي يمكن أن تزيد حدة إذا ما وقعت حادثة كارثية وراحت ضحيتها امرأة. وللأسف، مثل هذه الحادثة المأساوية وقعت فعلاً عام 1986. وعرفت بكارثة مكوك “تشالنجر” الذي انفجر جراء توقف أحد معززاته الصاروخية الخارجية عن العمل بعد 73 ثانية من انطلاقه، وأودى بحياة المدرسة كريستا ماكوليف، أول مدنية أميركية تحظى بفرصة السفر إلى الفضاء إلى جانب عضوين في الكونغرس.
وكان لوفاة ماكوليف وقع أكبر على الجمهور الأميركي من وفاة رواد الفضاء زملائها – وجميعهم من العسكريين المحترفين. وتعليقاً على ذلك، تقول مارغوليس إن الضجة الكبيرة التي أثارها موت ماكوليف يتأتى من كونها مدرسة ومدنية أكثر من كونها امرأة. “فرائدة الفضاء المحترفة جودي ريسنيك هي أيضاً امرأة وفقدت هي أيضاً حياتها في الحادثة. ومع ذلك، لم تلق وفاتها اهتماماً كبيراً بقدر كريستا. لماذا؟ لأن كريستا كانت ستصبح أول مدرسة أميركية تصل إلى الفضاء، ولأن كثيرين انتظروا رحلتها وعدداً كبيراً من المعلمين والطلاب تابعوا انطلاق الصاروخ مباشرة من مدارسهم وأصيبوا بالصدمة”.
في 5 أكتوبر 2022، أصبحت نيكول أونابو مان أول امرأة أميركية من السكان الأصليين تصعد إلى الفضاء
وفي أعقاب وفاة ماكوليف، ارتأت وكالة “ناسا” إلغاء برنامج “مدنيون في الفضاء” Civilians in Space، “على اعتبار أن الخطر الذي يتسبب به للمدنيين أكبر من أن يستمر. فمقتل الطاقم شكل صفعة قوية لأمة لطالما احتضنت روادها الفضائيين وأعادتهم إلى الأرض سالمين. كان من المفهوم علناً أن مكوك الفضاء هو وسيلة نقل آمنة ومريحة إلى المدار. لكن واقعة “تشالنجر” أتت لتشوه هذا المفهوم وتذكر بالأخطار بطريقة مأساوية”.
“كان موت ماكوليف مؤلماً بشكل خاص”، كتبت مجلة “نيو ساينتست” (New Scientist)، “لأن رواد الفضاء هم المثل الأعلى لكثر من الناس العاديين، في هذه الحالة مدرسة نيو هامبشاير دائمة الابتسام، ومن شأن ذلك أن يضع ’ناسا‘ تحت ضغط هائل لحماية كل من تختار إرساله إلى الفضاء. ومن الآن فصاعداً، قد لا تسمح الوكالة بمغادرة المدنيين كوكب الأرض”. وعندما قررت الوكالة عكس ذلك، فإنها عوقبت بتأنيب الضمير.
وسالي رايد هي أول امرأة أميركية تصل إلى الفضاء، والمفارقة أنها حلقت في المدار على متن نفس مكوك الفضاء “تشالنجر”، قبل ثلاثة أعوام من وقوع الكارثة في 18 يونيو (تموز) 1983. وكانت رايد تقدمت بطلب للانضمام إلى “ناسا” على خلفية إعلان هذه الأخيرة عن بحثها عن راود فضاء جدد في إحدى الصحف. وبعودتها الناجحة من الفضاء، وضعت رايد حداً نهائياً للأسئلة التي أثيرت قبل رحلتها، من قبيل السؤال المباشر التالي: “هل ستؤثر الرحلة في أعضائك التناسلية؟” – وهذه مسألة لم يصر على مناقشتها أبداً مع آلان شيبرد، أول رجل أميركي سافر إلى الفضاء – والسؤال السخيف التالي: “هل تبكي عندما تسوء الأمور في العمل؟” ناهيك عن السؤال الذي يتمحور حول ما إذا كانت ستوضب بين أغراضها حقيبة مكياج الذي ردت عليه بالنفي. وعلى صعيد أكثر إيجابية، أسفرت رحلة رايد إلى الفضاء عن انتشار الشعار النسوي “انطلقي، سالي رايد” (Ride, Sally Ride) وطباعته على القمصان في مختلف أنحاء الولايات المتحدة وخارجها.
ولربما تكون سالي رايد أول امرأة أميركية تطير إلى الفضاء، إلا أنها ثالث امرأة تقوم بهذه الخطوة عموماً. فقبل عقدين من انطلاق رحلتها من “مركز كينيدي للفضاء” في فلوريدا، صعدت الملازم فالنتينا تيريشكوفا من سلاح الجو السوفياتي، إلى المدار على متن كبسولة “فوستوك 6″، لتصبح أول امرأة في التاريخ تبلغ الفضاء. وأتمت تيريشكوفا رحلتها هذه في 16 يونيو (تموز) 1963، أي بعد عامين فقط على قيام يوري غاغارين (أول رائد فضاء) بالمثل.
وعلى رغم انهمار الإشادات على تيريشكوفا وقتذاك بوصفها رمزاً نسوياً – وما زالت كذلك حتى هذه اللحظة – إلا أن رحلتها، ربما بشكل غير مفاجئ، لم تؤد إلى تحرير رحلات الفضاء كما كان يأمل كثيرون. والمدهش للغاية أن تيريشكوفا لا تزال إلى اليوم المرأة الوحيدة التي قادت مركبة فضائية بمفردها وأصغر امرأة صعدت إلى الفضاء.
لقيت المعلمة كريستا مكوليف حتفها في كارثة مكوك الفضاء تشالنجر في عام 1986
لقد كانت بالفعل حقبة مختلفة. وعبرت عنها بوضوح وكالة “يونايتد برس إنترناشونال”United Press International للأنباء، في تقرير بعنوان “الفتاة الأولى في الفضاء تحصد ترحيباً حاراً من النساء الشيوعيات”، جاء فيه: “أعربت السيدات عن استحسانهن إبان الاجتماع الذي استمر أربعة أيام والذي يهدف إلى الإعلان عن حقوق المرأة والسلام ونزع السلاح”. وأضاف “وسائل الإعلام الدعائية السوفياتية تستخدم الآنسة تيريشكوفا دليلاً حياً على الفرص التي يتيحها النظام الشيوعي للنساء مقارنة بالغرب الذي يبادرهن بالاضطهاد، بحسب ادعاء السلطات السوفياتية”.
واتسم تقرير الوكالة بنبرة متعالية ومتشككة في آن واحد. ولربما لم يكن الشك في غير محله، إذ مضى إلى القول إن رئيس الوزراء السوفياتي نيكيتا خروتشوف “قاطع أحد خطابات النصر لسرقة قبلة من الآنسة تيريشكوفا”.
وبعد تيريشكوفا، استبعدت النساء عن الفضاء مدة 19 عاماً ولم يفتح المجال أمام امرأة أخرى للتحليق إلى الفضاء قبل الرائدة السوفياتية سفيتلانا سافيتسكايا التي قامت برحلة عام 1982، أي قبل عام واحد من رايد. وعلى ما يبدو أن الالتزام السوفياتي بالمساواة والمدعوم بإطلاق تيريشكوفا الشهير لم يكن أبداً حقيقياً. فبمجرد أن رأى خروتشوف العنوان الرئيس – وسرق القبلة – حتى عاد النظام الأبوي إلى أساليبه القديمة.
الحقيقة أنه لم تكن لدى الاتحاد السوفياتي نية لإرسال المرأة إلى الفضاء. لكن عندما تهادى إلى مسمع مدير تدريب رواد الفضاء نيكولاي كامانين، عام 1961، أن الولايات المتحدة تفكر جدياً في الموضوع، اعتبر أنه سيكون “إهانة للمشاعر الوطنية للنساء السوفياتيات”. بيد أن معلومات كامانين لم تكن صحيحة. بتعبير آخر، لم تكن الولايات المتحدة تعتزم إرسال امرأة إلى الفضاء. كل المسألة أن 13 امرأة أميركية خضعن لتقييم نفسي لرحلات الفضاء كجزء من برنامج “نساء في الفضاء” الذي يديره الطبيب ويليام راندولف لوفليس بشكل خاص وبمعزل عن “ناسا”. والأرجح أن هذا كان مصدر استخبارات كامانين غير الدقيقة.
ومهما كانت الأسباب، فقد باشر بالعمل. وفي يناير (كانون الثاني) 1962، اختيرت 400 مرشحة، كلهن من المظليات. وبعدها بشهر، قلص العدد إلى خمس نساء. وبحلول ذلك الوقت، عرفن جميعهن أن واحدة منهن فقط ستحلق في الفضاء، فيما سيكون مصير بقيتهن التقاعد. وبحلول ذلك الوقت أيضاً، اتضح للعلن أنهن جزء من حيلة دعائية ليس إلا.
أرادت تيريشكوفا دائماً إظهار الدعم لرواد الفضاء الأخريات (غيتي),
وبالنسبة إلى فالنتينا بونوماريوفا، أقرب منافسة لتيريشكوفا، فقد استثنيت من البرنامج بعدما اتضح من المقابلات التي أجريت معها أنها داعمة قوية للآراء النسوية ولا تأبه للتفاهات السياسية السوفياتية التي يفترض أن تتبناها. لطالما كانت المساواة المزعومة لبرنامج الفضاء السوفياتي مظهراً مخادعاً.
وفي هذا الخصوص، تقول هيلين شارمان، أول بريطانية تنطلق إلى الفضاء باتجاه محطة “مير” السوفياتية عام 1991، “لطالما كان الأمر يتعلق بمزاحمة الولايات المتحدة على الإنجازات الأولية: أول مركبة تدور حول الأرض وأول إنسان يصعد إلى الفضاء – آنذاك كان سيكون دائماً رجلاً – وأول امرأة تسافر إلى الفضاء وأول امرأة تسير في الفضاء وما إلى ذلك. فالمجتمع السوفياتي بقي مجتمعاً أبوياً بامتياز وإن كانت النساء يعملن بانتظام كمهندسات وطبيبات ومزارعات. وهذا يعني أن قيمه التقليدية هي التي نمطت المرأة كأم وربة منزل بالدرجة الأولى”.
وعرف عن كامانين استخفافه برائدات الفضاء وتلقيبهن بـ”غاغارين في تنانير”. فبالنسبة إليه، إرسال المرأة إلى الفضاء هو مجرد وسيلة لتحقيق غاية. وفي غضون رحلة تيريشكوفا، روج كامانين لشائعة مفادها بأن مرضاً شديداً ألم برائدة الفضاء وحال دون قيامها بالوظائف المطلوبة منها. وفي وقت لاحق، حاول استخدام هذه الشائعة ذريعة لعدم إرسال مزيد من النساء إلى الفضاء. لكن محاولته باءت بالفشل بعدما أنكرتها تيريشكوفا جملة وتفصيلاً وصدق المؤرخون على عدم صحتها.
ولحسن الحظ أن شائعة كامانين المؤسفة لم تقلل من أهمية إنجاز تيريشكوفا الرائع، وحتى المكائد السياسية لم تقو عليه، لأن الدوافع بكل بساطة تنحني أمام عظمة النجاح. ولعل تيريشكوفا كانت دمية غير مقصودة بيد الأجهزة البيروقراطية السوفياتية، لكن هذا لا ينفي حقيقة أنها درست وتدربت ونفذت عمليات طيران بالمحاكاة بقدر رواد الفضاء الذكور – كثير منهم فشلوا في الوصول إلى المستوى المنشود – في زمن لم تكن فيه السلامة أولوية أو حتى مضمونة.
في الواقع، تشير إحدى القصص إلى أنه لولا فهم تيريشكوفا العميق للمركبة الفضائية التي تحلق بها ولولا عينها الثاقبة، لكانت ستكون أول امرأة تلقى حتفها في الفضاء. فبعد فترة وجيزة من الإقلاع، تبين لتيريشكوفا أن أنظمة الكبسولة لإعادة الدخول ضبطت بشكل خاطئ من قبل المهندسين الأرضيين. وكان عليها أن تخوض جدالاً كبيراً مع أفراد مركز التحكم بالمهمة لإقناعهم باكتشافها. ولما أدركوا أخيراً أنها على حق، أرسلوا إليها إعدادات جديدة حتمت عليها تمديد مهمتها. كما أجبروها على القسم على إبقاء الأمر سراً. وقد افترضت تيريشكوفا دوماً أن أحداً من أفراد الطاقم الأرضي المكون من الرجال فقط لم يرد للعالم أن يعرف أن امرأة رصدت خطأ في عملهم.
وحصلت تيريشكوفا على “وسام لينين” وأصبحت بطلة من أبطال الاتحاد السوفياتي. وظلت عضواً ملتزماً في الحزب الشيوعي السوفياتي لحين تفككه عام 1991. وكانت من أشرس المعارضين للإصلاحات التي أطلقها رئيس الوزراء السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف وأفضت إلى انهيار الأمة التي كانت السبب في ارتيادها الفضاء. وأياً كان من محاوري اليوم يسألها عن رأيها بغورباتشوف، تجيب: “لا أريد أن أسمع باسمه. صحيح أن الاتحاد السوفياتي ارتكب أخطاء، لكن هذا لا يبرر تجاهل إنجازاته. فبرأي كثر من الناس، [الاتحاد السوفياتي] كان أمة عظيمة”.
ومن المحتمل أن تكون رواسب الوطنية السوفياتية رسمت اتجاه تيريشكوفا السياسي المستقبلي. ففي الأعوام الأخيرة، شوهت سمعتها إلى حد ما – أقله في عيون الغرب – بتأييدها الزعيم الروسي المستبد فلاديمير بوتين وترشحها لحزب روسيا الموحدة وفوزها بمقعد في مجلس الدوما. وعن عمر يناهز الـ85 سنة، لا تزال تيريشكوفا هي نفسها الشخصية المتزمتة والمتجهمة والمنساقة التي ركبت “فوستوك 6” منذ ستة عقود.
وتقول شارمان عن تيريشكوفا “عندما كنت أتدرب في مدينة النجوم شمال موسكو، كنت دائمة الشعور بالرهبة من رواد الفضاء الأوائل، لا سيما فالنتينا. ولكنني حظيت بفرصة التعرف عليها أثناء حضورها لحفل الاستقبال والفطور اللذين أعدا على شرفي وشرف طاقمي، قبل مغادرتنا إلى كازاخستان حيث تنطلق منها مهمتنا. ولا تزال فالنتينا إلى اليوم تدعم رائدات الفضاء كائناً من تكون. وما زلت ألتقي بها في فعاليات مختلفة حول العالم – باستثناء تلك التي نظمت خلال كوفيد وحرب أوكرانيا. وإبان كل فعالية وحدث، تحرص فالنتينا على جمع كل رائدات الفضاء الحاضرات لالتقاط صورة تذكارية”.
وفي الوقت الحاضر، أمام الولايات المتحدة فرصة ذهبية للعثور على خليفة تيريشكوفا في العصر الحديث. ويتوقع للمرأة الجديدة أن تحظى بقدر كبير من الإشادة شأن أول امرأة مشت على سطح القمر وأول امرأة صعدت إلى الفضاء، وأن يمجد اسمها كما يمجد حالياً اسما نيل أرمسترونغ – أول رجل وطأت قدماه القمر – وغاغارين. ووفقاً لمارغوليس، فإن إجراءات الاختيار ستكون دقيقة وستقع على عاتق “مكتب رواد الفضاء” التابع لـ”ناسا”. وفي مثل هذه الأمور، لم تعتد الوكالة الإدلاء بأي تعليق أو تصريح”. وعليه، لا يبقى أمامنا سوى الانتظار والترقب.
وتتطلع شارمان بفارغ الصبر لذلك اليوم الذي ستخطو فيه امرأة أولى خطواتها على سطح القمر، وباعتقادها أن إنجاز تيريشكوفا، على رغم أسبقيته، يضيع أحياناً في معمعة المعارك الدعائية المحتدمة أبداً بين الدول التي ترتاد الفضاء. “فجهاز الصحافة والعلاقات العامة التابع لـ’ناسا‘ حريص كل الحرص على أن تبقى سالي رايد دائماً في أذهاننا وأن نبقى على اطلاع في ما لو قامت امرأتان أميركيتان بالسير جنباً إلى جنب في الفضاء مثلاً. وبما أن السياسة البريطانية أكثر ميلاً إلى الولايات المتحدة من روسيا، من البديهي أن تحتضن ثقافتها وتعاليمها الإنجازات الأميركية على حساب تلك الروسية”. ولكن ألا يقلل ذلك من شأن إنجاز تيريشكوفا؟
ففي النهاية، ومن خلال الإدراك المتأخر للتاريخ بعد 60 عاماً على نضال المرأة في سبيل التحرر، أثبتت فالنتينا تيريشكوفا، بغض النظر عن الأسباب الدعائية وراء رحلتها وإذا ما كانت بحاجة إلى إثبات، أن المرأة والرجل متساويان. فرحلتها على متن “فوستوك 6” حققت نجاحاً يوازي بأهميته نجاح رحلات أبناء وطنها الذكور. شكلت رحلة تيريشكوفا نقطة انطلاق – لغاية الآن بلغ عدد النساء اللواتي سافرن إلى الفضاء 75 امرأة – وهي لا تزال نموذجاً نسوياً يحتذى به. وفي وقت قريب، ستسير امرأة على القمر، والشهرة التي عرفتها تيريشكوفا ذات يوم ستنتقل إليها. فعساها تكون على قدر المركز المهم الذي ستملؤه.