حرية – (16/1/2023)
تستطيع اليوم أن تحيا سنوات عدة في وقت واحد، فاعتقادك أنك تعيش فقط في عام 2023 هو مجرد زاوية رؤية صغيرة لتقويم اتفق عليه عالمياً لتنظيم حياة البشر وجعلها أكثر مرونة على اختلاف الجغرافيا وما تحمله معها من ثقافة تخص كل شعب من الشعوب.
تستطيع أيضاً برفة عين أن تعيش في عام 6772 بحسب تقويم رأس السنة السورية، أو 2973 للسنة الأمازيغية، أو ربما تفضل أن تحتفل مع شعوب الشرق الأقصى مثل تايلاند بعام 2266، أو مع الفراعنة بعام 6264، أو تتبع هجرة الرسول فتحتفل بعام 1444.
لكن، لماذا كل هذه التقاويم، وما مصدرها، ولماذا سعى الإنسان منذ وجوده لأن يحدد الوقت، وعلى ماذا اعتمد، وما التقاويم التي ما زالت مستمرة ويحتفل بها إلى يومنا هذا؟
لماذا وجد التقويم؟
يقول الباحث السوري فراس السواح في كتابه “مغامرة العقل الأولى” إن “مسألة بدء العالم والحياة والإنسان كانت من أولى المسائل التي ألحت على العقل البشري، حيث احتلت الجانب الأكبر من ميتافيزيقيا جميع الفلسفات لدى جميع الشعوب، وقد حلت النظريات العلمية الحديثة محل الأسطورة”.
ويتابع السواح “في كل سنة يخلق العالم من جديد، ويجري تجديده ليعود نضراً كما كان لحظة خروجه طرياً من يد الخالق للمرة الأولى. وهذا التكرار الأبدي للخلق يجري بمعونة البشر ومشاركتهم فيه عن طريق الطقوس التي من شأنها شد أزر الخالق ومعاضدته ضد قوى العدمية التي تتصدى لحركة الكون بغية استعادته إلى حاله الساكنة. وهنا تتكشف المعاني السرية والعميقة الدلالة للاحتفالات الدينية في رأس السنة، التي بدأت في بابل وما زالت قائمة حتى يومنا هذا”.
ويتابع “في بابل وغيرها من مدن الشرق الأدنى القديم، كانت احتفالات رأس السنة تشغل حيزاً من اهتمامات البشر الدينية، وخلال بضعة أيام كان الناس يتفرغون لمجموعة من الطقوس تتركز حول إعادة تمثيل فعل الخلق الأول، والتكرار الدرامي للصراع البدئي الذي أنتج الأكوان والتوحد مع الزمن المقدس الذي أعطى العالم دفعته الأولى، واستحضاره وعيشه والذوبان فيه في حال الانقطاع الكلي عن الزمن الدنيوي المعتاد، فكانت تجري تلاوة أسطورة التكوين على الملأ، ثم يجري تمثيلها درامياً بواسطة مجموعة من الممثلين يتخذون أدوار الآلهة المتصارعة، أما بقية العباد فكانوا يمارسون الصلوات والابتهالات فيعطون من إيمانهم دفعاً للآلهة وسنداً”.
أكيتو بريخو
إن ما تحدث عنه الباحث فراس السواح هو ما يعرف اليوم برأس السنة السورية أو “أكيتو بريخو”، إذ يعتبر أقدم وأول تقويم ما زال مستخدماً حتى الآن، ويحتفل به في سوريا والعراق بخاصة من قبل الأقليات الأشورية والكلدانية والآرامية والسريانية.
وقد بدأ أول عيد للأكيتو على شكل يوم للحصاد الزراعي، الذي كان ينجز مرتين في السنة الواحدة، الأول في شهر أبريل (نيسان) والثاني في أكتوبر (تشرين الأول)، وتطور العيد من احتفال زراعي نصف سنوي إلى عيد وطني سنوي للسنة الجديدة، إذ يحتفل به في الفترة التي يتساوى فيها الليل والنهار، ويعرف هذا اليوم بالاعتدال الربيعي، ويترافق مع أول ظهور للقمر الجديد في الربيع، وقد ساد اعتقاد في الحضارات السابقة التي أوجدته أن حركة القمر السنوية ما هي إلا “حركة دائرية مغلقة” تضمن الطبيعة من خلالها الخلود ومقومات استمرار الحياة، أما البابليون فقد ربطوه بمناسبة دينية، وهي انتصار الإله مردوخ الذي خلق الحياة.
هكذا تزين العائلات بيوتها بلافتات اليمن والبركة ورسوم رأس السنة
تقام الاحتفالات بالعيد التي تستمر لمدة 12 يوماً، وترتبط بنهاية موسم الأمطار وبدء الخصب ونمو الزرع والثمار، وكانت تتخلله طقوس وشعائر دينية وتقديم قرابين ومواكب احتفالية كبيرة وإقامة ألعاب رياضية ورقصات، كما تقام الأفراح وعقود الزواج الجماعي.
في السنوات الأخيرة أعادت سوريا والعراق الاحتفال بهذه المناسبة، وأصبحت تفرد لها مساحة في النشاطات والإعلام والتعريف بتاريخها وإرثها القديم الذي تعتبره منشأ وبداية الحضارة الأولى، إذ يحتفل في أول أبريل من هذا العام بالسنة السورية 6772.
هكذا يختلف التقويم
ومن قارة آسيا إلى أفريقيا، حيث تبرز بشكل جلي احتفالات خاصة برأس السنة الأمازيغية ورأس السنة الإثيوبية، مع وجود ثاني أقدم تقويم في العالم وهو التقويم الفرعوني، وفيه اعتمد المصريون القدماء على التقويم القمري، إذ كانوا ينتظرون فيضان نهر النيل لنمو الزراعة. وقد تبين لهم أن الفيضان له علاقة بظهور نجم “سيروس” (Sirius)، فهو يغيب نحو 70 يوماً، ولدى معاودة ظهوره بعد الغياب الطويل يفرح الشعب ويحتفل لأنه يعلن ميعاد الفيضانات، وهو أيضاً عيد “شم النسيم” الذي يعني بالقبطية أو الفرعونية القديمة بداية الحياة.
أما السنة الأمازيغية فقد دخلت عامها الـ2973، وهي تشابه في موعدها التقويم الشرقي للكنيسة الأرثوذكسية التي تتبع التقويم اليولياني، الذي يعتبر كثيرون أنه التقويم الأكثر اتفاقاً مع الطبيعة، بعكس الغريغوري أو الميلادي.
للتقويم والروزنامة دور كبير في حياة سكان التبت
ويحتفل الإثيوبيون برأس السنة الخاص بهم “إنكوتاتاش” يوم 11 سبتمبر (أيلول) من كل عام، وهو تقويم مختلف، فالبلاد متمسكة لا تزال بتقويم الكنيسة القبطية المعروف محلياً بالتقويم الإثيوبي، ويتأخر عن التقويم الميلادي بأكثر من سبع سنوات، وتستمر الاحتفالات بـ”إنكوتاتاش” أسبوعاً كاملاً تتخلله برامج رسمية لمدة خمسة أيام، كتوزيع الهدايا والبرامج الخاصة بالتجمعات العائلية ومن بينها الذبائح.
وكلمة “إنكوتاتاش” مليئة بالرمزية، فهي تعني “هدية الجواهر”، كما أنها تمثل أيضاً نهاية موسم الأمطار، وهو الوقت الذي تتغطى فيه المساحات الخضراء الإثيوبية الشاسعة بأزهار صفراء زاهية تسمى Adey Abeba. وهناك رواية تقول إن الاحتفال بالعام الإثيوبي الجديد يعود إلى الوقت الذي عادت فيه ملكة سبأ من زيارتها للملك سليمان في القدس عام 980 قبل الميلاد، حيث استقبلت الملكة في بلدها بعديد من المجوهرات المعروفة أيضاً باسم “إنكو” في اللغة الوطنية الرسمية.
في ليلة رأس السنة، يضيء الإثيوبيون مشاعل خشبية تعرف باسم “تشيبو” في اللغة المحلية، وترمز إلى قدوم موسم جديد من أشعة الشمس مع اقتراب موسم الأمطار من نهايته.
عيد التبت والربيع الصيني
ومن جنوب خط الاستواء إلى جبال التبت أو هضبة الهمالايا جنوب غربي الصين، حيث للتقويم والروزنامة هناك دور كبير في الحياة، إذ إن إحدى أكثر استخداماتهما أهمية هي ضبط التواريخ لمختلف احتفالات البوذية، فاليوم العاشر من مراحل ظهور القمر وتضاؤله، أي اليوم العاشر واليوم الـ25 من كل شهر قمري، هو يوم أداء التقدمات الطقسية إلى شخوص بوذا وتشاكراسامفارا.
وفي كل سلالة بوذية تبتية، وضمن كل دير تابع لكل تقليد، يحدد برنامج الشعائر التي تمارس على مدار السنة اعتماداً على التقويم التبتي. ويستلزم إنشاء التقويم والروزنامة الخصائص التقويمية الشاملة الخمس، وهي يوم الأسبوع القمري، وتاريخ الشهر القمري، ومجموعة نجوم القمر، وفترة الاندماج، وفترة الحركة، وتنطوي أول خاصيتين على الآلية التي تجعل التقويمين القمري والشمسي متوافقين، فالنظام التبتي لعلم الفلك وعلم التنجيم معقد للغاية، ويستغرق الأمر خمس سنوات لتعلمه وإتقانه في قسم الفلك بمؤسسة الطب والفلك التبتية في دارامسالا بالهند.
أما الصين فلديها عيد الربيع، وهو أول عيد تقليدي صيني في السنة، وكان يدعى سابقاً “عيد رأس السنة القمرية الجديدة”، ذلك لأن يوم العيد، بحسب التقويم القمري الذي استمر استخدامه في تاريخ الصين، يصادف اليوم الأول من الشهر القمري الأول، ويعتبر بداية للسنة الجديدة. وبعد ثورة 1911، أخذت الصين تستخدم الصين الميلادي.
ومن أجل التمييز بينه وعيد رأس السنة الجديدة، تغير إلى “عيد الربيع”، ويحل في الفترة ما بين أواخر يناير (كانون الثاني) وأواسط فبراير (شباط) من التقويم الميلادي، ومن ضمن احتفالاته أن تلصق كل عائلة لافتات اليمن والبركة على واجهات المنازل، وتزين بيتها برسوم رأس السنة، وتسمى الليلة السابقة للعيد “ليلة الوداع” التي يلتئم فيها شمل العائلة ليتناولوا “طعام عشية السنة القمرية”، ويسهر كثير منهم حتى الصباح في لهو ومرح، وتدعى هذه السهرة “سهرة العمر”. أما صباح اليوم التالي فيتبادل الأقارب والأصدقاء زيارات التهنئة بالسنة الجديدة، وفي أيام عيد الربيع كذلك تقام في مختلف الأماكن نشاطات ترفيهية تقليدية محلية.
تقويم أول ديانة توحيدية
بما أن الديانة الزرادشتية هي أول ديانة توحيدية بحسب الباحث فراس السواح، فإن تقويمها وعيد رأس سنتها لا يزالان يحتفل بهما في عدد من الدول ولدى مجموعات متعددة من الشعوب، وهو ما يعرف بـ”عيد النوروز”، وهو تقليد تاريخي يعود أصله إلى نحو القرن السادس قبل الميلاد معلناً بداية سنة جديدة، وحلول فصل الربيع وولادة الطبيعة من جديد.
يعرف هذا التقليد التاريخي بأسماء مختلفة مثل “نوفروز” أو “نوروز” أو “نافروز” أو “نيفروز”، ويحتفل به عادة يوم الـ20 أو الـ21 من شهر مارس (آذار) من كل عام في عديد من البلدان على طول ما عرف بطريق الحرير، بما في ذلك أفغانستان وأذربيجان والهند وإيران والعراق وكازاخستان وقيرغيزستان وباكستان وطاجكستان وتركيا وتركمانستان وأوزبكستان.
وبحسب منظمة “اليونسكو” فإن كلمة “النوروز” تعني “نو” (جديد) و”روز” (يوم) باللغة الفارسية، لذلك يرمز “النوروز” إلى يوم جديد وبدايات جديدة.
القاسم المشترك بين التقاويم هو أن معظمها قام على مبدأ زراعي
ويحتفل في “النوروز” ببدايات سنة جديدة وعودة فصل الربيع الذي له مغزى روحي عظيم يرمز إلى انتصار الخير على الشر والفرح على الحزن، كما يتضمن احتفال “النوروز” مجموعة من الاحتفالات والشعائر، إضافة إلى عديد من الفعاليات الثقافية والاستمتاع بمشاركة وجبة غذاء خاصة مع أفراد العائلة والأحبة.
الزراعة أصل التقويم
القاسم المشترك بين أغلبية التقاويم هو أنها تقوم على مبدأ زراعي أو تقويم زراعي يتبع الطبيعة وقوانينها، فالإنسان الأول كان متصلاً بدرجة عميقة مع هذه الطبيعة، ويراقبها بكل احترام ووقار، وعرف توقيتات جعلته يسير بخطى ثابتة في كثير من الأحيان، ولم يكتف بمراقبة الأرض، بل رفع عينيه إلى السماء من حيث يأتي عونه، وراقب النجوم والكواكب وحركتها، وحددها بدقة تكاد تكون متناهية.
لكن أكثر ما اعتمد عليه في التقويمات التي أنشأها ليحدد له نظاماً دقيقاً يسير عليه هو حركة الشمس والقمر، فكثير من الشعوب كان باعثها القمر، ذلك الجرم السماوي المنير الذي أثار دوماً خيال البشر بأطواره وتبدل أشكاله والسماء المعتمة التي يسبح فيها، وآخرون ركزوا اهتمامهم حول الشمس، ذلك الجرم المشع مصدر الحياة والنماء والدفء.
إذاً فعلاقة الإنسان مع الطبيعة هي من خلقت هذه التقاويم، وهذا ما أكده صموئيل كريمر في كتابه “ألواح سومر”، عندما تحدث عن أول تقويم زراعي في بلاد سومر. وهو عبارة عن وثيقة اكتشفت في مدينة نفر عام 1950، ومؤلفة من 108 أسطر تشتمل على مجموعة من النصائح والإرشادات موجهة من فلاح لابنه بغية إرشاده في شؤون زراعته السنوية، ابتداء من سقي الحقول بالماء وانتهاء بعملية تنقية وتذرية المحاصيل، وبهذا يلاحظ أنها تشبه في دورتها ما اعتمدت عليه معظم التقاويم السابق ذكرها.