حرية – (22/1/2023)
منذ ما يقرب من مئة عام ونحن نكتب عن “سندريلا”، لكننا تنبهنا أخيراً إلى حقيقة انقراض هذه الأسطورة، فالحكاية تدور خارج سياقها الزمني الملائم في زمن الحداثة والأعمال الفنية حولها تراجعت تحريرياً أو من خلال السينما لمصلحة أعمال أكثر حداثة.
والواقع أنه يمكن القول في وقتنا هذا إن أسطورة “سندريلا” انتهت بلا رجعة وذلك لأن أسطورة المراة تغيرت بحكم الزمن، فالمرأة لم تعد ساذجة أو بريئة بما يكفي لكي تنتظر قوة خارجية تنتزع لها حقوقها من الآخرين وعلى رأسهم الرجل، بل إنها باتت قادرة بذاتها على فعل ذلك ومن دون عصا تمد لها من ساحر أو تعويذة من مشعوذ.
فالمرأة لم تعد حبيسة المنزل، أو دفينة المطبخ، هي الآن تمثل ذاتاً جامحة ولها شخصيتها الحديدية وقيمتها الاعتبارية، حتى إن استغراقها في هذا الدور الجديد الذي تمثل في دخول معترك الحياة ومنافسة الرجل على الوظائف والمناصب الكبرى حولها إلى شخصية أكثر صلابة وشراسة لدرجة أنها لم تعد تكترث لحقيقة أنها فقدت رمز براءتها ذلك إلى الأبد.
احتكار دور البطولة
فالرجل الذي لعب دوراً تاريخياً ظالماً أدى إلى اختفاء ذاتها المحاربة تلك، بات غير قادر على احتكار دور البطولة خارج المنزل وداخله. ولعل هذا يكون في مصلحته، فدوره الجديد في الحداثة بوصفه مسانداً وداعماً لحقوق المرأة في الحياة خارج نطاق المطبخ، انعكس بشكل إيجابي جداً على صورته في نظر الأنثى بداية وفي نظر المجتمع بأكمله لاحقاً.
فهو لم يعد ذلك المخلوق أو الكائن الأناني البشع الذي يمتص دماء النساء ليحقق مجده الشخصي، بل إنه أصبح من منظور سينمائي وأدبي منافساً للمرأة في عقر دارها جمالياً، وهو دور لم يعتد الرجل على احتكاره كلياً أو حتى التفرد في تأديته خلال آلاف السنين.
فخروج المرأة إلى غابة الحياة ممثلة بحياة الوظيفة ومتطلباتها النفسية والمهارية أثّر في صورتها البريئة، في مقابل ذلك تحسنت صورة الرجل وضمن مراحل زمنية يمكن رصدها من خلال شخصيات وأدوار سينمائية مثلها الذكر الذي تراجعت سطوته على غيره من المخلوقات ومن بينهم الأنثى.
الجميلة والوحش
يعد فيلم “الجميلة والوحش” أول إشارة سينمائية بارعة تمكنت من التقاط هذه اللحظة الحداثية بامتياز ووضعها في سياق جمالي وفكري معاً.
من فيلم الجميلة والوحش
فالعمل في جوهره ما هو إلا رصد دقيق لحال التحول تلك حرفياً، بحيث تحتفظ الأنثى بكونها رمز الجمال ولكن ظاهرياً أو شكلياً هذه المرة، لأن مكنون الجمال وثقله الحقيقي أزيحا تماماً باتجاه الرجل ومن منظور داخلي فقط. والرجل ما زال مشوهاً خارجياً وشكلياً حتى بعد أن لعب دوراً مهماً في تحرر المرأة العصرية من براثن القبضة الذكورية الساحقة. وسواء لعب الرجل هذا الدور طوعاً أو كرهاً، إلا أن صورته التي كانت تقترن قديماً بالمسخ أو المتغول تغيرت.
فالمسخ قبيح شكلاً ومضموناً فيما الرجل الآن يمر بمرحلة تعترف فيها الأنثى صراحة بتغير نظرتها إليه، لدرجة أن الجميلة تتغاضى تماماً عن تشوهه الخارجي وتهيم بمكنونه الداخلي لتقع في غرامه مجدداً.
نهاية أسطورة “سندريلا”
شكل هذا العمل نهاية أسطورة “سندريلا” إلى الأبد، فالمرأة لم تعد ذلك المخلوق الذي يمثل تطابقاً كاملاً بين الجمال الداخلي والخارجي. وشكل “الجميلة والوحش” مرحلة أساسية في البناء على أسطورة الجمال الجديدة التي جسدها الرجل هذه المرة.
فرانس كافكا
فكلما تعمقت المرأة في دورها الجديد وتغولت أكثر في ميدان العمل وسعت إلى نيل المناصب وتحقيق مزيد من المكاسب الشخصية، ينعكس ذلك بشكل فوري على تصاعد رمز الرجل الجميل ظاهرياً وباطنياً.
وجاءت قصة “المتحول” لليهودي التشيكي فرانس كافكا (1883-1924) بمثابة العلامة الفارقة التي وثقت لاكتمال هذا التحول الذي يطرأ على صورة الرجل عموماً والذكر المستبد خصوصاً.
فكافكا الذي تحدث في قصته هذه عن تحول بطلها إلى مخلوق غريب يشبه الصرصار لأنه يمشي على جدران غرفته، لفت في عمله هذا وأعمال أخرى له إلى تحول آخر سيعانيه رجل الحداثة وهو ما عرف بـ”الرجل الخارق” أو ما أجيز سينمائياً تحت اسم “سوبرمان”.
والعلاقة بين هاتين الشخصيتين الوحش و”سوبرمان” ربما لا تكون مرئية بسهولة أو مقترنة زمنياً، لكن الربط بينهما يأتي من كون “سوبرمان” (الرجل الآتي من كوكب آخر) جسّد جزئية مهمة أخرى من شخصيته تناغمت وروح هذا التحول الحداثي الكبير الذي عاشه الرجل ضمن أسطورته الشخصية التي كونها من خلال علاقته الخاصة بمفهوم الجمال.
الممثل البريطاني هنري كافيل الذي لعب دور سوبرمان
فالرجل وفق هذه الشخصية خرج من كوكب الاستبداد وجاء إلى كوكب آخر، فدخل في طور جديد من التطور وهو مفهوم التطابق جمالياً داخلياً وخارجياً هذه المرة. هكذا أصبح في زمن يتقلد فيه وسامي الأناقة والقوة معاً كدليل على أن جهده التراكمي في هذا المضمار وصل إلى واحدة من أهم ذرواته، فهو الآن لا يشبه المسخ لا داخلياً ولا خارجياً، فيما صورة المرأة تهتز مجدداً لتصبح أشبه بـ”زومبي” جديد بدلاً من الرجل في أوج ذكورته وغطرسته.
الجمال الداخلي
في زمن الحداثة يصل مخاض الجمال إلى ذروته الأخيرة لينصف الجنسين جندرياً في الأقل، فمفهوم الجمال يتطور ليبلغ ذروته، من حيث كونه صفة عامة تنطبق على الجنسين ولكن من منظور الجمال الداخلي الذي يوسع مفهوم الجمال العام عند الجنسين.
وكما نظرت المرأة من خلال “الجميلة والوحش” إلى جمال الرجل داخلياً، يتحتم على الرجل أن يفعل الأمر ذاته معها، خصوصاً في زمن تشوه صورتها بسبب دورها الجديد في الحداثة.
لذلك جاء إنتاج فيلم “shallow hal” أو هال السطحي عام 2001 ليبعد عن المرأة هذه التهمة التي التصقت بها أكثر مع مرور الوقت، وهي تهمة تحولها من “سندريلا” إلى “دراكولا” أو “زومبي” خلال هذه الحقبة من الزمن المعاصر.
الفيلم الذي أخذت منه نسخة عربية مصرية تحت اسم “حبيبي نائماً” تدور أحداثه حول رجل يلهث وراء الجمال الجسدي للنساء ولكنه يتعرض لحادثة روحية غامضة فيصبح رجلاً عميقاً يرى المرأة من منظور الجمال الداخلي فقط. هذه المفارقة وغيرها من مفارقات العمل السينمائي المتعددة تعيد الاعتبار لشخصية الأنثى من جديد.
أخيراً، يشكل هذا المخاض التاريخي العميق دلالة واضحة على اتساع مفهوم الجمال مع ملاحظة أن الجنسين الرجل والمرأة تناوبا على تحقيق وتعميق أسطورة الكائن الجميل ذكراً كان أو أنثى وذلك من خلال فهم ملابسات التحول الدقيقة التي يكابدها أحدهما أو كلاهما أثناء دورة الحياة، بحيث يكون على الآخر تفهم هذا الدور والنظر إليه بعمق واحترام بدلاً من الازدراء والتحقير.