حرية – (12/2/2023)
على الرغم من أن تفعيل قانون المحتوى الهابط جاء بناء على ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي بالدرجة الأولى، غير أن هذه المواقع هي التي بدأت تحرّض أو تدافع عن ناشري هذا المحتوى، غير أن مخاوف جديدة ازدادت مع قرارات اعتقال مروجي ما يعرف بالهابط، خوفاً من تضييق الحرّيات أكثر من السابق، لا سيّما أن هناك بيانات بدأت بالانتشار إعلامياً صدرت عن مؤسسات قانونيَّة تدعو لضم أية إساءة لسياسي أو لجهة سياسيَّة أو دينيَّة ضمن هذه القوانين، وهو ما يشكل سابقة خطيرة في مفصل الحرّيات المدنية في العراق.
والآن، بعد إلقاء القبض على بعض المدونين بتهمة المحتوى الهابط، من يحدّد أنْ يكون هذا المحتوى هابطاً أم لا؟ وهل يتساوى “سعلوسة” الذي يظهر يأكل التشيبس بفظاظة مع آخر يحرّض على قتل المحتجين؟ وربَّما يمكننا الحديث عن المحتوى الديني الهابط: هل هناك من يحاسبه؟
الحفاظ على المجتمع
المحامي حسين فاضل التميمي، رئيس منظمة “الغد أجمل لحقوق الإنسان” يشير إلى أنَّ “تلك التصرفات والصورة المشّوهة وغيرها تسيء للمجتمع بكامله، ثم بدأنا نلاحظ ظهور شبابنا، بعضهم كبار، يتصرفون تصرفاتٍ لا تليق بكرامة الإنسان ومكانته الآدميَّة، وكأنَّ “التغيير” عند بعضهم يعني “الانقلاب” على كل مبادئ الأمس وقيمه وجمالياته التي كانت تميزنا، كي يبدو أمام الناس أنّه متطور أو متنور”.
ويزيد: “حقيقة كنّا نحتاج لمثل هذه القرارات لحفظ الذوق العام ولحماية الآداب العامَّة، وللحد من التصرفات الطائشة والسلوكيات الغريبة، وحفظ قيمنا الدينيَّة والأخلاقيَّة والوطنيَّة والصورة المدنيَّة الحقيقيَّة للمجتمع.
فهناك فرقٌ بين الحرية الشخصيَّة المنضبطة التي لا تمس حريات الآخرين ولا تخرق حرية المجتمع، وليس فيها ما يتنافى مع تعاليم الديانات وتقاليد المجتمع، وبين الفوضى في التصرفات التي لا يراعي أصحابها القوانين، ولا يهمهم إنْ كان تصرفهم يخالف العيب، فالشخص حرٌ في حدود، لكنْ عندما يتجاوز حدود الحرية المسموح بها يتعدّى على حرّيات الآخرين، ويمارس التحرّش والابتزاز، ويرتدي ملابس غير لائقة أو ملابس غير محتشمة، فهذا تجاوز على آداب الذوق العام، ولهذا فوجود رادعٍ قانوني لضبط الذوق العام والآداب العامَّة سيضع لكلِّ صاحب سلوك شاذ حدوداً، وسيعيد ترتيب السلوكيات وفق منظومة من الأخلاقيات التي نستمدّها من القيم الحقيقيَّة للمجتمع العراقي.
ولتوضيح الذوق العام والآداب العامَّة، يقول التميمي إنَّ هناك من يعرّفها: اختیار ما یتوافق مع طباع الآخرین من دون المساس بالقیم الأخلاقیَّة الثابتة، ویعبر عنها بالذوق الرفیع والخلق السامي.
وهي أيضاً: فن السلوك المهذّب، والتصرف الراقي، ولا یكون متحلّیاً بهذه الصفة إلَّا إذا كان نابعاً من أعماق النفس البشریة دون أدنى تكلّف، أو تصنع، وهو في الوقت نفسه یتفق مع مبادئ الدین، والعادات، والتقالید السائدة في المجتمع.
ونتيجةً لذلك لا بدَّ من الإشارة الى دوافع المحافظة على الآداب العامة والذوق العام ومنها:
دوافع اجتماعية: تتمثل في المحافظة على القيم والأعراف والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع (الصحيحة).
دوافع قانونية (تنظيمية) تقتضي الحاجة لمواجهة الأفراد الذين يسيئون إلى الذوق العام بتصرفاتهم وأن يصدر بحقّهم ما يردعهم عن سوء التصرّف والاعتداء على أذواق ومشاعر الآخرين ووجود قانون خاص ينظم ذلك ويردع الناس عن الاعتداء على ذوق ومشاعر الآخرين والإساءة للمجتمع وسمعة البلد الاجتماعية والفنية والثقافية.
عقوبات سلبية
يبين المحامي طارق الإبريسم أنَّ هناك مواد مثل المادتين 403 بـ(الحبس سنتين والغرامة أو بإحداهما كلّ من صنع أو استورد أو صدّر أو حاز أو احرز أو نقل بقصد الاستغلال أو التوزيع لكتب أو مطبوعات أو كتابات أو رسوم أو صور أو أفلام أو رموز أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلّة بالحياء والآداب العامة ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعلن عن شيء من ذلك أو عرضه على أنظار الجمهور أو باعه أو أجّره أو عرضه للبيع أو الإيجار ولو في غير علانية ويعتبر ظرفاً مشدّداً إذا ارتكبت الجريمة بقصد إفساد الأخلاق).
أما المادة 404 فقد عاقبت (بالحبس لمدةّ لا تزيد عن سنة أو بالغرامة من جهر بأغانٍ أو أقوال فاحشة مخلّة بالحياء بنفسه أو بواسطة جهاز وكان ذلك في مكان عام).
ويكمل الإبريسم: يلاحظ أن النصوص العقابية أعلاه استخدمت في الحكم على من تمَّت ملاحقتهم ممَّن نشروا مقاطع تتسم بالمحتوى الهابط أخلاقيّاً المخل بالحياء والآداب العامة وهي مفاهيم نسبية لم تحدّد الأفعال الجرمية تحديداً دقيقاً، وهذا قد يؤدي إلى ملاحقة من يمارسون انتقادات لأداء مؤسسات الدولة أو لأشخاص فاسدين في السلطة وقد يكون هناك ازدواج في تطبيق العدالة مما يؤدّي إلى الحدِّ من حرية التعبير.
مضيفاً أنَّ العقوبات وحدها لا تؤدي إلى مكافحة الرثاثة والهبوط الأخلاقي، بل يجب أن تتشارك المؤسسات التربوية والإعلامية والمنظّمات الثقافية في الارتقاء بالوعي الأخلاقي في التعامل مع السوشيال ميديا وبناء ثقافة اجتماعية رصينة تستند إلى قيم تسهم في الاستقرار الاجتماعي وترتقي بالذائقة وتهذّب ردود الأفعال النفسية بما ينسجم مع قيم التمدن.
ويعتقد الإبريسم أنَّ التوسع في الغرامات بدلاً من العقوبات السالبة للحرية سوف يترك أثراً إيجابيّاً إصلاحيّاً أكثر من التوسّع بالعقوبات السالبة للحرية من أجل حماية المجتمع من أشكال التعبير المشوهّة والهابطة.
مرايا الواقع
وبحسب الشاعر والإعلامي علي عبد الأمير عجام، فقد أصبحت “فكرتي النقدية عن الموسيقى الشعبية السائدة في مرحلة تاريخية ما بوصفها مرآة صادقة للوعي الاجتماعي في تلك المرحلة وبارومتر له، مؤشراً يمكن قراءة أي مشهد للنتاج الثقافي الشعبي من خلاله، مهما تعدّد وتغيّر وبدا مطابقاً لحداثة خارجية تفرضها وسائل الاتصال المعاصرة”.
هكذا يمكن قراءة محتوى منشورات العراقيين على وسائل التواصل الاجتماعي، فهي مؤشّر لا على وعي ناشريها فحسب، بل وعي المتفاعلين معها والمروّجين لها، وقبل ذلك كله هي مؤشّر للوعي الاجتماعي السائد سياسياً وفكرياً في مرحلة إنتاجها وانتشارها.
واذا كان محتوى ذلك النتاج “هابطاً” ومروّجاً للتفاهة فهو يشكّل مقياساً طبيعيّاً للوعي السائد، بل هو مرتبط بملامح الانحطاط الفكري كلّها كما هو الواقع السياسي السائد، وهو من نتاج قيم الفساد الأكثر حضوراً في المشهد العراقي، مثلما هو مقياس للبذاءة السلوكية ولغتها وقيمها.
لا يمكن تحديد أنْ يكون هذا المحتوى (المنشور بأشكالٍ عدّة على منصات التواصل الاجتماعي) هابطاً أم لا؟ مثلما لا يمكن أنْ يكون مرتبطاً بالبذاءة اللفظيَّة والتعبيرات “الخادشة للحياء” فقط، بينما يتم غض النظر عن المحتوى التحريضي على الكراهية والقتل والانقسام المجتمعي، بذريعة أنَّ أصحاب المحتوى التحريضي هم من أبواق السلطة والمقرّبين من قواها المتنفذة وصاحبة السطوة.
الواقع العراقي السائد اليوم هو ذاته المنهل الأكبر للقيم البذيئة بكل أشكالها.
تسطيح الوعي
ويبين الدكتور وسام حسين العبيدي أنَّ واحدة من أهم الإشكاليات في القرار الذي صدر مؤخّراً من وزارة الداخلية بخصوص التبليغ عن المحتوى الهابط في وسائل التواصل الاجتماعي، تبرز في بيان تحديد “المحتوى الهابط”؛ نظراً لاختلاف مستويات وعي جمهور هذه الوسائل، ولعلَّ تحديد المعايير الأخلاقية التي بموجبها نحكم على هذا المحتوى بأنَّه جيد أو هابط، تختلف من شريحة اجتماعية لأخرى، ولكن ثمّة قواسم مشتركة ينبغي التأكيد عليها، وجعلها المعيار الأساسي، في تحديد تلك الضوابط، تتمثّل بمراعاتها النفع العام للمجتمع، بما يرتقي بوعيه لما هو أفضل، وبما تضيف إليه من خبرات ومعلومات أو نصائح وتوجيهات في مختلف المجالات لا يختلف على نفعها اثنان، وقد لا يقتصر “المحتوى الهابط” على من صدرت منهم كل ما يُخالف “الذوق العام” الذي أجده فضفاضاً إذ لا يمكن تحديد هذه المحتوى بما يماشي الذوق العام أو يُخالفه، لأنه يمثّل أذواق مختلف شرائح المجتمع، وكما قيل: “لولا اختلاف الأذواق لبارت السِلع”، فثمة محتوىً دينيٌّ لبعض من يلبس الزيّ الديني، ممّن يمارس الدجل باسم الدين، عبر ممارسات تسطِّح الوعي الديني لدى عامة الناس، أو خطابات لا تركِّز إلَّا على البعد الطائفي وتعميق روح الكراهية بين مختلف أبناء الشعب الواحد، أو تبثّ عبر منصّاتها ما يعمل على تخدير الناس عن واقعهم، فمثل هذا المحتوى لا يقلُّ خطراً عن من تمَّ تشخيص محتواهم وتوصيفه بالهابط.
قلق المجتمع
ويوضّح الناشر حسين مايع أنَّ تحديد المحتوى الهابط من عدمه يتعلق بقناعة القاضي، إذ لا توجد حدود واضحة للموضوع، وهذا ما يثير قلق المجتمع، فربَّما تُستخدم الفقرات القانونية الخاصة بهذا الموضوع ضدَّ أشخاص لهم آراء سياسيَّة تختلف عن توجهات الحكومة أو الأحزاب الحاكمة مثلاً، فلا توجد ضمانات في هذه التفصيلة.
ثم أنَّ ما نراه هابطاً قد يكون طبيعياً في مدينة أو قرية أخرى في البلد نفسه، فالمقاييس لدى كل إنسان تعتمد على بيئته وثقافته وتنشئته الاجتماعية، وهنا سيكون اختلاف بالقرارات الصادرة من القضاة، ما دامهم ينتمون إلى ثقافات مختلفة.
ويرى مايع أنَّ هناك قسوة في التعامل مع صُنّاع المحتوى الهابط، والفارغ أحياناً، فلا يُعقل أن يُسجن الإنسان لسنة أو أكثر بسبب فيديو لبعض الحركات والكلمات وإن كانت مسيئة، فالسجن لابدَّ أن يكون آخر الكي، وليس أوّله، ودون مقدمات، كان بالإمكان توجيه هؤلاء وتنبيههم وتحذيرهم، قبل صدور الأحكام، فأغلبهم لم يمتلكوا قدراً كافيّاً من التعليم أو الثقافة، وعلى الدولة والمجتمع المتحضّر أن يعملوا على تأهيلهم بدل محاكمتهم.
هيبة الدولة
وينهي الكاتب سلمان عبد مهوس هذا النقاش، قائلاً: “رافق هذه الظاهرة أنَّ أكثر من شخصٍ يستخدم الدين وليس لديه أيّة صفة دينية لأجل الحصول على الإعلانات التجاريَّة أو لأجل الشهرة أو المال فيجب معاقبة هؤلاء بتهمتين الأولى هي (المحتوى الهابط) أو التجارة بالدين لغرض الشهرة فضلاً عن الإساءة للدين بصورة عامة”.
وهنا يكمن ضرورة أنْ نفهم هذا المصطلح الجديد (المحتوى الهابط) فهماً عميقاً وصحيحاً يمكننا من رصد المحتويات التي تسيء للمجتمع وللنظام العام ولكلَّ قيم التعايش والسلام والذوق العام لجميع العراقيين لنبذ أشكال العنف والطائفيَّة والخرافة والشعوذة كلّها التي يروّج لها البعض ممَنْ يحسبون أنفسهم على رجال الدين وهنا على المؤسسة الدينية أنْ تقوم بدورها الأبوي للمجتمع ومحاسبتهم وتبيان موقفهم منها في بيانات عن طريق الإعلام الرقمي والمكاتب الإعلاميَّة لتلك المؤسسات حفاظاً على المجتمع والدين.
ويكمل: “خطوة مكافحة صناعة المحتوى الهابط وإنْ كانت متأخرة إلَّا أنَّها خطوة في غاية الأهمية وتضع الجميع أمام مسؤولياتهم والتنبه لمخاطر هذه الظواهر على المجتمع بغية مكافحتها بشكلٍ تربوي وموضوعي ومهني.
ونحن هنا مع إعادة هيبة الدولة وفرض القانون في خطوات جادة وحقيقيَّة في ملاحقة كل من يعتقدون أنَّهم فوق القانون من مروّجي (المحتوى الهابط) أو من الفاسدين كلّهم من أعتقد أنَّ لا قانون ولا قوّة أمنية تطاله لينال جزاءه العادل في إطار القانون”.