حرية – (15/2/2023)
ندما أقدمت حركة طالبان المتشددة في أفغانستان على هدم تماثيل بوذا في بلادها قبل أكثر من عقدين من الآن لم تكن التماثيل، سواء الخاصة بالقادة أو غيرهم، في العالم العربي قد تعرضت بعد لاعتداءات، لكن الأمر الآن مختلف.
فخلال هذين العقدين تعرضت عشرات التماثيل في مدن عربية للسرقة طمعاً في تهريبها وبيعها، أو التخريب تحت لافتة أنها ربما تعيد المجتمعات إلى عصور الوثنية، مما يطرح تساؤلات حول مستقبل هذه التماثيل.
مستهدفة من الجميع
منذ أعوام انتقلت حمى معاداة التماثيل إلى دول عربية بعينها مثل العراق والجزائر والمغرب، بخاصة مع بروز تنظيم “داعش” وإحياء فتاوى قديمة تحرم تلك التماثيل.
كان “داعش” دمر لدى إخضاعه مدينة الموصل شمال العراق لسيطرته عام 2015 عشرات التماثيل التي تعود للحضارة الآشورية والهلنستية قبل ميلاد المسيح، الأمر الذي دفع منظمة “يونيسكو” إلى الإسراع آنذاك للتنديد بهذه الاعتداءات.
الباحث العراقي فقار فاضل يقول إن “التماثيل مستهدفة من الجميع تقريباً في العراق، فمنذ الغزو الأميركي عام 2003 تم قصف وتدمير كثير من الشواهد التاريخية على غرار تماثيل الضباط الأحرار، وهي تماثيل تعود للحقبة الملكية”.
ويتابع فاضل لـ”اندبندنت عربية” أن “هذه التماثيل لم تسلم من السرقة أيضاً، إذ تمت سرقة تمثال كهرمانة في وسط العاصمة بغداد بعد تدميره جراء إطلاق نار، وبعد عام 2010 لم تتوقف سلسلة الاعتداءات، إذ قامت مجموعات متشددة وعلى رأسها تنظيم ’داعش‘ بهدم متحف محافظة نينوى الذي يحوي كثيراً من القطع التاريخية والحضارية المهمة”.
ويشدد على أن “أسباب قيام ’داعش‘ بذلك هو فكره المتشدد، فأراد طمس الهوية العراقية وبناء دولة الخلافة المزعومة في ذلك الوقت، مما قاد إلى تدمير هذه التماثيل والشواهد في محاولة لمحو الحضارة العراقية العريقة”.
ويضيف “لا ننسى أيضاً أن بعض الفصائل والميليشيات الشيعية تقوم بتهديد دائم لتمثال أبو جعفر المنصور مثلاً، وهو تمثال قام بإنشائه الفنان خالد الرحال، وهكذا فما زالت الأفكار المتشددة تستهدف التماثيل، وهناك مسيرات في منطقة المنصور التي تضم التمثال تطالب بهدمه لأسباب طائفية”.
فئة صغيرة
ليس العراق وحده الذي يعرف انتشاراً واسعاً للأفكار الرافضة لإقامة التماثيل، ففي الجزائر تصاعدت الاعتداءات عليها، وكان أحدثها ذلك الذي استهدف تمثال المرأة العارية في عين الفوارة في ديسمبر (كانون الأول) عام 2022، وهو اعتداء قالت السلطات إن منفذه مختل عقلياً.
غير أن هذا التمثال تعرض لما لا يقل عن ثلاثة اعتداءات في آخر عشرية، في حين يربطه كثيرون بفرنسا التي دشنته قبل أكثر من 100 سنة، ويقول قسم آخر إنه يستفز الإسلاميين باعتباره يجسد امرأة عارية تستعرض جمالها في بلد محافظ بشكل كبير.
حوادث أخرى استهدفت هذا التمثال تعود لعقود خلت، فخلال التسعينيات التي عرفت حرباً أهلية في الجزائر، أقدم متشددون على تفجير تمثال المرأة العارية، لكن السلطات تداركت الأمر بترميمه في ظرف 24 ساعة، غير أن الحادثة تكررت بعد أعوام، إذ أقدم رجل على تخريب التمثال.
المتخصص في التراث عبدالرحمن خليفة يقول إن “بعض الناس لا يهتمون بالتماثيل بل يكرهونها في الجزائر لأنهم يعتبرونها شيئاً لا يهم الدين، لذا عمد بعضهم إلى هدمها مثل ما حدث في عين الفوارة”.
ويستدرك “لكن هذه فئة صغيرة من الناس لأن المتاحف تضم عدداً كبيراً من التماثيل وهي محصنة منذ عهود والدولة والشعب يهتمان بها لأنها تجسد حضارة الجزائر”، مشدداً على أنه “لا يمكن الجزم بأن كل العالم العربي يكره التماثيل”.
وكان الإسلاميون دعوا في وقت سابق السلطات الجزائرية إلى الاقتصار في عرض التماثيل على المتاحف وسحب التي يرون فيها “خدشاً للحياء” من الشوارع إلى تلك المتاحف، لكن وزارة الشؤون الثقافية رفضت بشدة.
الرقم القياسي
في ليبيا التي سقطت في أتون حرب أهلية بعد زوال حكم العقيد معمر القذافي عام 2011، لم تسلم التماثيل شأنها شأن بقية المعالم الأثرية من عبث الميليشيات والمهربين، بحيث تمت سرقة العشرات وتخريب كثير منها.
ويبقى أبرز الاعتداءات ذلك الذي شهدته العاصمة طرابلس عام 2014 ضد تمثال الغزالة الذي يقول مؤرخون إنه يمثل أسطورة من أساطير الآلهة الإغريقية ويصور مشهداً لحسناء تمسك بجرة وتعانق غزالة. وبعد الاعتداء عليه في ذلك العام اختفى التمثال فجأة، فقالت أوساط سياسية ليبية إنه تم تهريبه.
يعلق الباحث الليبي كامل المرعاش على الأمر بالقول “في الواقع ليبيا سجلت خلال العشرية الماضية رقماً قياسياً في الاعتداء على التماثيل لم تشهده في تاريخها القديم والحديث، وظاهرة الاعتداء وتدنيس وحتى تهديم التماثيل والمعالم الأثرية والعتبات الدينية جاءت من الخارج، بحيث جلبها الإرهابيون المتطرفون الذين حاربوا في أفغانستان وتشربوا الفكر الطالباني المتطرف، ولم يعرف أتباع المذهب المالكي، وهو السائد في ليبيا، أي توجه عدائي ضد مواقع التراث الإنساني ولا أضرحة الصالحين منذ مجيء الإسلام إلى البلاد”.
وأبرز المرعاش في تصريح خاص أن المدن الليبية التي شهدت الاعتداءات هي تلك المدن التي سيطر عليها تنظيما “القاعدة” و”داعش” وكانت مدن درنة وسرت وصبراته وطرابلس ومزدة وزليطن والخمس من أكثر المدن التي سجلت عشرات الاعتداءات على التماثيل والأضرحة.
ويعتبر أن “اللافت للنظر والمؤسف أن دار الإفتاء التي يديرها الصادق الغرياني لم تبد أي اعتراض على جرائم المتطرفين وكأنها تقدم تأييداً مبطناً لأعمالهم الإجرامية ضد التراث الوطني الليبي والإنساني الذي عرف منذ آلاف السنين، ولم يتعرض لهذه الاعتداءات التي تنم عن الجهل والسقوط والانحدار الحضاري”.
عقب الثورة شهدت ليبيا تهريباً لمئات القطع الأثرية والتماثيل التي باتت تباع في المزادات العالمية، وعلى رغم أن هناك جهوداً حكومية أطلقت لوضع حد لهذه الظاهرة فإنها لم تثمر بعد نتائج ملموسة على الأرض.
نقاش حاد في المغرب
وفي المغرب شهدت الأوساط السياسية خلال الأعوام الأخيرة نقاشات حادة حول مصير التماثيل مع تصاعد الأصوات المنادية بضرورة إزالتها، وهو ما لقي معارضة من قبل تيار آخر.
جاءت هذه النقاشات كإفراز لحادثة هدم تمثال “سمكتين” في مدينة القنيطرة عام 2020، وهي الحادثة التي سرعان ما تفاعلت معها آنذاك نقابة الفنانين التشكيليين في المغرب بالدعوة إلى تشكيل لجان لمناقشة جماليات المشاريع قبل إقامتها في الساحات العامة.
ربما لا يمكن اعتبار هذه الحادثة مقياساً، إذ إن أسباب الهدم كانت تتعلق بغياب المعايير الجمالية عن هذا التمثال، لكن قبل ذلك هدم تمثال لـ”الهولوكوست” في إقليم الحوز، في خطوة أثارت جدلاً واسع النطاق.
ويقول الباحث المغربي محمد الغالي إن “التماثيل في المغرب لطالما أثارت نقاشاً بين شق مؤيد وآخر معارض وتيار ثالث يتبنى موقفاً معتدلاً، إذ اعتبرت الجهات المعارضة أن هذه التماثيل سترجعنا إلى عهود خلت سادت فيها الوثنية، فيما رأى تيار آخر العكس وهو أن التماثيل تعبير فني إنساني يؤرخ لحقب معينة ويمكن أن يعكس نوعاً من الجمالية”.
ويرى الغالي أن “المسألة لم تصل في المغرب إلى حد مسّ عقيدة المغاربة في اعتقادي، مما غيب تحركات حاسمة في هذا الملف، في حين بقي الأمر مقتصراً على النقاش في الفضاء العام والأوساط السياسية”.
اعتداءات في تونس
على رغم حرص السلطات في تونس على تحصين التماثيل والمعالم الأثرية، فإن حوادث عدة الحوادث شكلت خلال الأعوام الأخيرة تحدياً حيال بقاء تلك التماثيل بمنأى عن الاعتداءات.
في 2021 اعتدى عدد من الشباب الغاضب على هامش تظاهرة احتجاجية على تمثال العلامة ابن خلدون الذي كان وضع للتو في شارع الحبيب بورقيبة، وهو الشارع الرئيس في العاصمة التونسية.
وقبل ذلك تعرض تمثال للزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة للتخريب في العاصمة الفرنسية باريس في خطوة أثارت استنكاراً واسعاً، لا سيما أنها تزامنت مع فترة شهدت تجاذبات حادة بين العلمانيين الذين يستلهمون أفكارهم السياسية من بورقيبة والإسلاميين ممثلين بحركة “النهضة”، الذراع السياسية لتنظيم الإخوان المسلمين.
الباحث محمد صالح العبيدي يقول إنه “لا يمكن أبداً فصل تصاعد النزعة العدائية للتماثيل في العالمين العربي والإسلامي عن وصول التيارات الإسلامية في الأعوام الأخيرة إلى الحكم، فهي بالفعل تتبنى فتاوى خاصة تستمدها من شيوخ تكفيريين لا يؤمنون بالمعيار الجمالي للتماثيل ولا بقيمتها الحضارية والفكرية”.
ولفت إلى أنه “في حال تونس هناك نوع من الحزم تجاه أي اعتداء من هذا النوع، بخاصة أن المجتمع رافض للأفكار المتشددة، لكن هناك من يجهل حتى تاريخ الزعيم بورقيبة وابن خلدون وغيرهما من الشخصيات التاريخية التي دشنت من أجلها هذه التماثيل”.
ويؤكد أن “هذه السجالات والممارسات لا يمكن فصلها أبداً عن خطاب سياسي سائد يشكك في قيمة هذه الشخصيات، مما يحتم على الطبقة السياسية أن تكف أولاً عن العودة للتاريخ بشكل سلبي، إذ يجب التصالح معه وتجاوز الخلافات في شأنه لتهدئة الحشود التي عادة ما تكون متعطشة لكل ما هو هدام”.