حرية – (18/2/2023)
حذرت ورقة بحثية من تداعيات حملة مواجهة “المحتوى الهابط” من قبل الداخلية التي عززته السلطة القضائية بتوجيه في ذات المسار “طالت شخصيات مغمورة .. يقدمون محتوى هزلي بسيط” وسط تساؤل الكثيرين عن سبب عدم شمول بعض من “المؤثرات” في وسائل التواصل ممن يتلفظن بالشتائم النابية علنا، ناهيك عن الربط بين الفساد الإداري والتعثر في مكافحته.
وذكرت الورقة التي كتبها “حيدر عبدالمرشد” لـ”مركز البيان”(18 شباط 2023) أن “أي مفهوم اجتماعي يواجه مشكلة النسبية في تحديد معناه والاتفاق على تعريفه، والمحتوى الهابط يشكل بوجه خاص موضع اختلاف كبير في تحديد ماهيته، وما الذي يمكن أن يوصف بأنه أخلاقيات هابطة، تبعا لمعايير المجتمع، أو المؤسسات الاجتماعية المؤثرة”.
وتالياً نص الورقة البحثية:
لا يكاد يختلف أحد على ان نسبية الاخلاق تتغير بتغير المجتمعات وما تؤمن به من منظومة ثقافية، وحتى داخل المجتمع الواحد، تختلف باختلاف المجموعات الثقافية ومتبنياتها، ولكي يتم التعامل مع موضوع بهذه الخطورة لابد من أن يسبقه حوار اجتماعي واسع يصل الى الحد الأدنى من الخلاف لتحديد معيار واضح لا يحتمل التأويل لما يكون محتوى هابطا مرتبط باخلاقيات هابطة.
ويفترض هذا ألّا تكون هناك جهة واحدة تحدد بمفردها ما يمكن أن يكون هابطا، وينتج عنه محتوى هابط، في ظل ثقافة معولمة، وانفتاح لا حدود له على العالم، سبب تلاشٍ للمركزيات الثقافية، وانعدام للحدود، وصعوبة في الانكفاء على الذات الجمعية، خصوصا إذا كانت تلك الجهة هي جهاز الشرطة، الذي يعاني بدوره في العراق من مشاكل لا اول لها ولا آخر، واتهامات بالفساد عبر تقارير حكومية رسمية.
من جانب آخر، وفي مجتمع يشهد تناقضات شديدة مثل المجتمع العراقي، فإن آلية التبليغ بحد ذاتها تنطوي على خطورة كبيرة، تمكن مجموعة ثقافية، أو جماعة دينية منظمة بشكل جيد، تمكنهم من قيادةة حملة تبليغات لوصف محتوى ما بأنه هابط، وفقا لمنظومتها الثقافية الفرعية، الأمر الذي سيصطدم بالحريات التي كفلها الدستور من جانب، وبواجب الدولة بحفظ النظام عبر أسس صحيحة غير خاضعة للشعبويات، ولا تنساق خلف آراء مجموعة على حساب مجموعة أخرى، مع ضرورة حفظ المنظومة الأخلاقية العامة المتعاهد عليها، والتي انبثق عنها الدستور في الوقت ذاته.
من جانب آخر، فإن ظاهرة اللاعقلانية والهبوط في المحتوى المرئي لا تقتصر على العراق وحسب، بل هي ظاهرة عالمية، ترافقت مع الشعبوية السياسية، والاضطرابات الاجتماعية على مستوى العالم، هناك مجموعات تدعو للانقلاب على النظم السياسية الديمقراطية في اوربا والولايات المتحدة، ومحتوى أتاح لكل من هب ودب أن يقول ما يريد على وسائل التواصل الاجتماعي، لدرجة قادت عالم الرموز والروائي الإيطالي الراحل امبرتو أيكو أن يقول أن وسائل التواصل الاجتماعي (تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء)، مما يعني أن هذه الظاهر العالمية بتجليها العراقي لا يمكن أن تحل في ظل تراجع تنموي وانخفاض في مستويات التعليم وارتباك اجتماعي كما نشهده في العراق لا يمكن أن تحل بوسائل شرطوية ترتكز على بنية قانونية منقوصة من الأساس.
من جانب آخر، فإن ارتفاع عدد المشاهدات والدعم لمن وصف محتواهم بالهابط يعني أن هناك قبولا اجتماعيا لهم، بغض النظر عن كون هذا المحتوى وداعميه واعين أو غير واعين، الأمر الذي يعني أن المشكلة لا تتعلق بشخص امسك جهازه المحمول وانتج محتوى هابطا، بل يتعلق بخلل اجتماعي أوسع لابد من تداركه وعلاجه على المستوى العام، بما يعني أن المطلوب هو علاج المشكلة وليس آثارها، كما هو حاصل في الحملة موضع الجدل.
النقص القانوني
على الرغم من أن العراق يرزح تحت وطأة بنية قانونية مترهلة تتشابك فيها التشريعات وتضرب بعضها بعضا، إلا أنه في الوقت ذاته يشهد نقصا كبيرا في تغطية المشاكل المستحدثة، خصوصا في الفضاء الرقمي.
لا يمتلك العراق قانونا للجرائم المعلوماتية، ومسودة هذا القانون تتعرض للشد والجذب والجدال منذ سنوات، وقدمت نسخ مختلفة منها، وفي كل مرة يتم تعديلها من قبل البرلمان تظهر حملة مناهضة للقانون لأن التعديل يضم نصوصا ملغومة يمكن أن تقيد الحريات العامة، وحرية إبداء الرأي في القضايا السياسية، ونقد الحكومة، والسياسات العامة، وتعيق آليات الرقابة الاجتماعية على الإداء الحكومي.
أما النصوص الجزائية الموجودة في قانون العقوبات العراقي فهي نصوص قديمة، لا تراعي تغيرات الزمن، ولا تنسجم في كثير من مفاصلها مع التحول الديمقراطي الذي شهده البلد، وفي ظل التعسف في تنفيذها فإنها تقود الى المزيد من المشاكل بدل أن تحلها، وتسبب الفوضى عوضا عن حصرها.
ومما يدل على هذا التخبط أن الإجراء القانوني الذي تتخذه الأجهزة الأمنية، وما أن يواجه بحملة على مواقع التواصل فإنه يتم التراجع عنه، وتحويل مساره، وهو ما لاحظناه مثلا في قضية الشاب الملقب (عبود سكيبة) الذي يقدم محتوى هزلي غير مضر، واعتقلته قوات الأمن في ناحية الكحلاء بمحافظة ميسان، وقاد اعتقاله الى حملة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي سببت اطلاق سراحه قبل رفعه الى القضاء، بل وصل الأمر بعدها الى شموله برواتب الرعاية الاجتماعية التي تقدمها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وكل هذا حصل خلال يومين وحسب، الأمر الذي ينبي عن تخبط كبير، ومطاطية في تطبيق القوانين.
من جانب آخر، فإن ما يمكن أن يسمى (محتوى هابط) او (تفاهة) لا يتوفر فيه الفعل الجرمي اللازم للعقوبة عبر القوانين الجزائية العراقية النافذة، بشكل خاص قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 وتعديلاته النافذة، وما ورد فيه من نصوص عن الآداب العامة يحتمل وجوه عدة، وترك القانون لاجتهادات وتفسيرات الشرطة في ظل نظام ديمقراطي أمر بالغ التعقيد.
الأمر الأكثر خطورة هو النماذج التي يراد تطبيقها في العراق، ففي تبريرها للقرارات القضائية، فأن نقيب المحامين العراقيين في سياق تسبيب منع المحامين من التلفظ بما يمكن ان ينافي الاخلاق العامة ذكرت مثالا سيئا هو النموذج المصري، الذي يخضع لنظام سلطوي شديد، يعاقب فيه بالحبس دون محاكمة حتى حملة الفكر من أساتذة الجامعات والمفكرين، الذين لا يكادون التمكن من الحديث عن رأيهم السياسي، ولا يسمح لهم بنقد التخبط الحكومي، فيساقون الى السجن بطريقة مهينة، ولعل من بين أبرز امثلة هذا القمع هو اعتقال الدكتور حسن نافعة، المفكر واستاذ العلوم السياسية لعدة اشهر بأوامر من النيابة، دون محاكمة، وغيره من الأمثلة، الحقيقة أن آخر نموذج يمكن أن يحتذى به هو النموذج المصري، الذي يخضع القضاء فيه لمزاج الحاكم ولا يكاد يصدر قرارا يخالف توجهاته في القضايا العامة.
هذه التعقيدات، تفرض أن يتم تشريع قانون عراقي واضح ومحدد، يراعي الظروف المستحدثة، وعملية التغير الديمقراطي في العراق، فضلا عن المتغيرات الاجتماعي، ويكون القصد منه الإصلاح لا العقاب، ويتوخى الضبط بالتدرج دون الذهاب مباشرة الى النصوص القانونية التي ستكون قاسية لو طبقت على صناع محتوى لا يتضمن القصد الجرمي اللازم لإيقاع عقوبات القانون العراقي النافذ.
المحتوى الهابط والمشكلة السياسية
تكفل الدستور العراقي بضمان الحريات الشخصية والحريات العامة، وهذه الحريات الدستورية يمكن أن تكون مطلقة وقابلة للتأويل بشكل واسع، وفي الحقيقة فإن حرية التعبير عن الرأي تشمل الغث والسمين، ولكن لا يمكن ولا توجد قوانين تمنع الانسان من أن يكون تافها على المستوى الشخصي، ولا يوجد هناك تجريم لمن يختار بملئ ارادته الاستماع الى محتوى هابط، او الاشتراك به، ما دامت آثاره لا تمتد الى اقتراف جريمة عينية تتوفر فيها الدوافع الجرمية، وهو امر لم يتم أثباته للان فيمن وقعت عليهم حملة مكافحة المحتوى الهابط، فهذه الحملة لم تبين ـ على سبيل المثال ـ أن من بين أهدافها القضاء على جريمة الاتجار بالبشر، والتوريط في الدعارة عبر الفضاء الرقمي، ومن القي القبض عليهم حتى الان لم يثبت تورطهم في مثل هذه الجرائم.
ومن البديهي أن الاضطراب السياسي وموقف المجتمع العراقي، بتعبير أدق الجماعات العراقية المختلفة من الحكومة والنظام السياسي غير موحد، ويتعرض لالتباسات كثيرة، عززتها احتجاجات تشرين، والعزوف عن المشاركة في الانتخابات، بالمجمل يتعرض النظام السياسي العراقي الى اهتزاز صورته والثقة به بين المواطنين، ويكاد أي قرار تتخذه الحكومة أن يكون محل هجوم، حتى وإن كانت عوائده مفيدة، الأمر الذي يعني ضرورة الحذر من أي قرار قد يحدث المزيد من الإرجاف بالنظام السياسي، وقد لاحظ المراقبون أنه بمجرد الحديث عن الإجراءات الشرطوية لمكافحة المحتوى الهابط عجت مواقع التواصل بالهجوم على الحكومة والاجراء، وما أن بدأت بتطبيقه إلا وازداد الهجوم وشكلت حملات لرفضه.
بالتأسيس على هذا، فإن القرارات ذات البعد الاجتماعي التي تصدر عن الحكومة في العراق سيكون لها ارتدادات سياسية قد تكون بالغة الخطورة، والحملة على “المحتوى الهابط” ينطبق عليها توصيف الأزمة بشكل كبير، ويمكن أن تتخذ ذريعة للمزيد من الهجوم على الحكومة، التي ولدت بعد مخاض شديد العسر.
العراق والمشكلة الرقمية
لا يزال العراق يقبع في مراحل متأخرة من اللحاق بالتقدم التقني الحاصل في تنظيم الفضاء الرقمي والسيطرة عليه، لا توجد في العراق سيطرة على شركات الانترنيت، او بوابات النفاذ الى الشبكة الدولية، ناهيك عن تأخر الربط بالكابل الضوئي، ولا توجد نقاط اتصال حكومي مع الشركات التي تدير مواقع التواصل الاجتماعي العالمية، التي توجد لها مكاتب إقليمية في دول الجوار افتتحت بالتنسيق بين الحكومات الوطنية واليونسكو، وتلتزم الشركات بموجب التفاهم المعقود مع الحكومات بالتعاون التام لغرض حصر الجريمة عبر الفضاء الرقمي، وهناك خلاف كبير بين المؤسسات الحكومية في العراق بشأن الجهة التي يفترض أن تكون المسؤولة عن هذا الموضوع في ظل تعدد الأهداف التي تختطها كل مؤسسة لنفسها.
خلاصة القول، لا يمتلك العراق التقنية اللازمة لحصر المحتوى الرقمي، فتلجأ الحكومة الى الطرق التقليدية التي تقود الى مشاكل أكثر تعقيدا، تطرقنا لها بالتفصيل.
ما العمل؟
إزاء ما ذكرناه من مشاكل، نضع هنا مجموعة من المقترحات، يمكن أن تضيء الطريق نحو خطة وطنية تحقق الأهداف النبيلة المرجوة من حملة مكافحة المحتوى الهابط دون أن يكون لها مساس بالحريات العامة، وبطريقة تضمن تحقق الرضا العام، وتمكن الحكومة من الحصول على الدعم الاجتماعي اللازم للسياسات المتخذة في هذا السياق.
1-لابد من سد النقص التشريعي الحاصل في القوانين العراقية واللازمة لتوفير الغطاء القانوني السليم لحملة الحكومة، لا يمكن أن يتم محاسبة صناع محتوى لا يقصدون الجريمة بقوانين موجهة للجرائم، يمكن تغطية ما يتعلق بهذا النقص عبر قانون الجرائم الالكترونية بتضمينه فقرة تتعلق بهذا الموضوع، شرط ألا يتم معاقبة المخالفين من المرة الأولى بالسجن المشدد كما هو مطروح اليوم، وأن يتم تنقية المسودة المطروحة مما قد يهدد الحريات العامة وحرية التعبير.
2-نقترح تشكيل مركز وطني لتقييم المحتوى العراقي في مواقع التواصل الاجتماعي، يكون له مجلس يتخذ القرارات، ويعينه في عمله كادر متخصص بالشؤون الرقمية، وأن يكون المجلس بعضوية من متخصصي علم الاجتماع وعلم النفس، والقانون وعلم السياسة، وممثلين عن المجتمع المدني بشكل دوري، وأن يؤخذ رأي الجامعات والمراكز المتخصصة لكي يتم تقييم المحتوى عبر هذا المركز، ويتم اتخاذ القرار بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس المركز، وترفع توصياته الى الجهات القضائية المختصة التي تتخذ الإجراء وفق قانون يراعي الظروف الاجتماعية ولا يساوي بين المجرم وغير المتعلم الذي ينتج محتوى هابطا.
3-بالتوازي مع محاسبة منتجي “المحتوى الهابط” تناط بالمركز مسؤولية دعم منتجي المحتوى الجيد، سواء كان محتوى علميا، او ترفيهيا، أو فنيا، وغيره، مثل تكريمهم ماليا، وإقامة دورات لتطوير مهاراتهم وغيرها من أشكال الدعم.
4-من المهم توحيد الجهات المسؤولة عن الفضاء الرقمي في العراق، وضبط المحتوى الرقمي، وتوجيهها للفصل بين ما هو جريمة الكترونية تهدد أمن البلاد وبين محتوى مرتبط بالظروف الاجتماعية العامة وبالظرف الخاص لمنتجه، المؤسسات الحكومية المعنية بالفضاء الرقمي في العراق تعمل في أجواء من المنافسة غير الإيجابية، وتكاد كل مؤسسة تعرقل عمل الأخرى وتتداخل فيما بينها بالصلاحيات، من المهم في الحد الأدنى تشكيل لجنة وطنية عليا بقرارات ملزمة لاعضائها تضمن عدم التعارض في العمل وتوحيد المخرجات.
5-البدء بحملة وطنية شاملة لرفع الوعي بين الشباب، وأن تتم بالتوازي مع تفعيل منتديات الشباب التي تقدم لهم نشاطات متنوعة تشغل وقتهم وتمنعهم من الغرق في مواقع التواصل ومحتواها الهابط، وان تتضمن برامج تثقيفية ونشاطات معرفية تعزز الوعي وتدفع الشباب باتجاه القراءة التي ترفع ذائقتهم الأدبية والفنية.
6-التركيز على الطلاب عبر توحيد جهود وزارتي التربية والتعليم العالي في وضع مقررات دراسية بمستويات متعددة، حول الامن السيبراني، والمحتوى اللائق وطرق صناعة محتوى عراقي بمعايير راقية تجبر المجتمع على متابعتها ونبذ المحتوى المسيء.
7-التشدد في عقوبة من يوفر الحماية لصناع المحتوى الهابط، بشكل خاص من الاناث اللواتي يتمتعن بحماية بعض الفاسدين في الأجهزة الأمنية وشاغلي المناصب الحكومية، والاعلان عن المعاقبين بشكل واسع النطاق بطريقة تجعل البقية يحذرون من الانخراط في هذا المحتوى الهابط وحمايته.