حرية – (11/3/2023)
لطالما راودت فكرة الخلود البيولوجي الإنسان منذ القدم، وأدت هذه الرغبة إلى مجموعة من المحاولات باءت جميعها بالفشل، ولطالما أكد علماء الأنثروبولوجيا الأوائل وجود إيمان راسخ بما سموه الحياة المستقبلية في الثقافات البدائية عبر جمعهم “أدلة مقنعة” حول ذلك، مع اختلاف طرق التصور لطبيعية هذا الوجود المستقبلي.
وفي العصر الحديث طرح مفهوم الخلود من قبل عديد من الأدباء والشعراء والكتاب الذين وصل معظمهم بشكل أو بآخر إلى فكرة أن “الخلود ليس الامتداد في الزمن، بل هو الامتداد في أعماق اللحظة”، كما تقول الروائية فاتحة مرشيد، ثم جاءت التكنولوجيا اليوم بسيل من النظريات والمفاهيم الجديدة التي تروج في مضمونها إلى الخلود بأشكال أخرى، ففي حين يعرف الخلود بصورة عامة بأنه وجود لا ينتهي أو استمرار للحضور الفكري أو الروحي أو المادي للبشر، تطرح اليوم فكرة الخلود الافتراضي الرقمي بقوة، متراوحة بين الإقبال الشديد والرفض القاطع تبعاً لكل ثقافة ومعتقد. ومن هنا سننطلق في هذا المقال لنوضح كيف يمكن للذكاء الاصطناعي والتطبيقات الجديدة أن يسهم بخلود الأشخاص رقمياً؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يخفف من ألم الفقد، وأن يتيح لنا شكلاً مقبولاً من أشكال التواصل الافتراضي مع الأحباء المتوفين؟
“أفاتار” متفاعل
“ماذا لو كان هناك مكان واحد يمكن أن تعيش فيه كل ذكرياتك إلى الأبد؟”، هكذا يبدأ الفيديو الترويجي لتطبيق “هير أفتر” (HereAfter AI)، ليعلن عن نفسه طارحاً طريقة جديدة لحفظ ومشاركة لحظات حياتك وذكرياتك، أي أصبح بإمكانك إنشاء صورة رمزية افتراضية أو “أفاتار” (avatar) خاص بك ليتحدث ويتفاعل بشكل حي مع أحبائك بعد مغادرتك الحياة.
ويتيح تطبيق “هير أفتر” (HereAfter) المدعوم بالذكاء الاصطناعي، للأشخاص، التحدث إلى أقاربهم المتوفين من خلال إنشاء نماذج افتراضية خاصة بهم، ويسمح لك بصفته تطبيقاً تفاعلياً الاحتفاظ بذكريات معينة معبرة وذات مغزى عن حياتك ومشاركتها بشكل تفاعلي مع الأشخاص الذين تحبهم، إذ يتيح لك طرح أي سؤال حول حياة أي شخص تحبه، وأن تسمع صوته دائماً، وبذلك يحافظ على القصص الثمينة لجميع أفراد الأسرة للاستماع إليها، بحسب موقع الشركة.
ووفقاً لتقرير مجلة “إم أي تي تكنولوجي ريفيو” (MIT Technology Review) العلمية الصادرة عن “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا”، تعمل التقنية من خلال تدريب الذكاء الاصطناعي على الصور والتسجيلات واللقطات الخاصة بالأشخاص المتوفين أخيراً لإنشاء نموذج افتراضي يمكن للآخرين التفاعل معه، إذ يتعرف النموذج على مطلب محدد وينشط إحدى القصص المسجلة مسبقاً من قبل الشخص الذي تستند إليه “الصورة الرمزية” أو “الأفتار الموروث” (legacy avatar).
قصص خالدة
أسس البرنامج جيمس فلاهوس في عام 2019 بعد إنشاء روبوت مرتكز على التسجيلات التي تركها والده قبل وفاته، تضمنت قصصاً من طفولته وعائلته وهواياته واهتماماته المختلفة، إضافة إلى طريقته بالتعبير والمزاح والسؤال ومفرداته الخاصة، وغيرها، ثم قام بعد ذلك بتطوير (HereAfter AI)، ووعد بما سماه “التقاط الروح الحقيقية للناس والوصول إلى مكان تصبح فيه قصصهم خالدة”. وتتلخص طريقة العمل بتسجيل الذكريات أولاً بمساعدة محاور آلي، ثم بعد ذلك يمكن لأحبائك الدردشة مع الشخص الافتراضي باستخدام نظام الذكاء الاصطناعي القائم عليه البرنامج الآن أو في أي وقت في المستقبل، وكذلك يمكنهم طرح أي سؤال حول حياتك وسماع صوتك في أي وقت.
يتيح لك التطبيق طرح أي سؤال حول حياة أي شخص تحبه وأن تسمع صوته دائماً (هير أفتر)
الخلود في التطبيقات
ويعد الغرض الأساسي من هذه التقنية هو السماح للأحباء الباقين على قيد الحياة بتعلم العيش مع خسارتهم والحفاظ على الذكريات بعد الموت، وهي طريقة جديدة للتعامل مع الفقد يستغل فيها مؤسسي هذا التطبيق صفة أساسية في الطبيعة البشرية، فالإنسان يميل بشكل بديهي إلى استرجاع المحادثات والذكريات مع هؤلاء الذين غادروهم، بخاصة في فترات الفقد الأولى، وكذلك تكثر الخيالات المرافقة التي تمثل نوعاً من استحضار الفقيد في الحياة الحقيقية من خلال الأفكار المدعومة بقصص مرتجاة ينسجها الفاقد لتخفيف آلام الخسارة والغياب.
ولكن، هل تعد الذكريات شكل من أشكال الخلود؟
بمتابعة لردود فعل عدد ممن استخدموا هذه التطبيق، تحدث معظمهم عن استمتاعهم بالاستماع إلى قصص جديدة عن حياة والديهم مثلاً وهم في أعمار أصغر سناً، كما استمعوا إلى بعض الحكايات عن طفولتهم، وحصلوا حتى على بعض النصائح حول حياتهم.