حرية – (20/3/2023)
يفتح الاتفاق بين السعودية وإيران آفاقاً جديدة لشرق أوسط بدون أمريكا، فالعامل الرئيسي في هذه الصفقة هو بلا شك عدم تدخل واشنطن في الأمر مطلقاً، فلماذا يعتبر غياب الولايات المتحدة عن المنطقة أمراً إيجابياً؟
كانت السعودية وإيران قد أعلنتا استئناف العلاقات بينهما بعد قطيعة استمرت 6 سنوات، وهددت الاستقرار والأمن في الخليج، وساعدت في تأجيج الصراعات في الشرق الأوسط من اليمن إلى سوريا.
وجاء الإعلان عن الاتفاق الذي توسطت فيه الصين بعد محادثات لم يعلن عنها من قبل، استمرت أربعة أيام في بكين، بين كبار مسؤولي الأمن من البلدين. وذكر بيان صادر عن إيران والسعودية والصين، أن طهران والرياض اتفقتا “على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران”. وأضاف “الاتفاق يتضمن تأكيدهما على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”.
عدم تدخل الولايات المتحدة
نشرت مجلة The Intercept الأمريكية تحليلاً ركّز على كيف أن العامل الرئيسي في صفقة تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران هو عدم تدخل الولايات المتحدة مطلقاً.
فعلى مدى سنوات، جادل صقور السياسة الأمريكية بأن الانسحاب العسكري والسياسي للولايات المتحدة من الشرق الأوسط يهدد بتوليد فراغ فوضوي في المنطقة، لكن بدلاً من التخلي عن الصراعات والاضطرابات، فإن الدور الأمريكي في تمكين قوى معينة ضد أخرى حفَّز تلك القوى على اتباع سياسات عدوانية، تتراوح من العدوان العسكري وصولاً إلى الفصل العنصري، من منطلق ضمان أن هناك قوة عظمى خارجية ستدعمهم دائماً.
وفي هذا السياق، فإن مشهد خصمين ينتميان إلى منطقة الشرق الأوسط يتفاوضان على السلام من تلقاء نفسهما يعزز أيضاً حجج دعاة السياسة الخارجية الأمريكية، القائمة على عدم التدخل في شؤون المنطقة التي تعج بالصراعات، إذ لطالما جادل هؤلاء بأن الوجود الأمريكي نفسه من شأنه أن يسرِّع من الصراعات الإقليمية.
وفي النهاية، أدى التردد المتزايد من جانب الولايات المتحدة في الانخراط بشكل مباشر في المنطقة، بدلاً من إثارة الفوضى، إلى تحفيز القوى المحلية على تسوية الأمور بمفردها، وهو بالضبط ما تمثله الصفقة الإيرانية السعودية.
وكان تقرير سابق لمجلة Slate الأمريكية قد ألقى الضوء على الجدل في أروقة السياسة الأمريكية، بشأن اللقاءات السرية بين إيران والسعودية على الأراضي العراقية، في غياب الولايات المتحدة، ورأت المجلة أن هذا التحوُّل كان مدفوعاً بالاعتراف بأن الولايات المتحدة تبتعد عن الشرق الأوسط.
ونقلت عن أحد كبار مستشاري بايدن، أثناء الانتقال من الانتخاب إلى التنصيب، في بداية ولاية بايدن مطلع عام 2021، قوله إن المنطقة ستحتل المرتبة الرابعة في أولويات بايدن، بعد آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا وأمريكا الجنوبية.
ورغم كل التحديات التي قد ينطوي عليها عالم ما بعد أمريكا، فإن الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط كانت بلا شك مشروعاً كارثياً لكل من الأمريكيين وشعوب المنطقة. من خلال الانخراط في العنف المباشر، فضلاً عن تمكين الدول العميلة العدوانية، ساعدت الولايات المتحدة في تحويل الشرق الأوسط إلى كابوس من عدم الاستقرار، ومع ذلك فمع انحسار نفوذ الولايات المتحدة، وتكيّف دول أخرى مع غيابه، قد يكون وضع أكثر استدامة جاهزاً للظهور.
لماذا يعتبر غياب أمريكا إيجابياً؟
وتعتبر المملكة السعودية مثالاً يحتذى به، ففي السنوات الماضية بدا ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان حريصاً على الحرب مع إيران، وتعهد علناً بنقل الصراع بالوكالة بين القوى مباشرة إلى الأراضي الإيرانية، وشبَّه المرشد الأعلى لإيران بهتلر. وكانت جميع تلك التصريحات مدعومة بافتراض ضمني أن الولايات المتحدة ستقوم بالعبء الثقيل في حرب مستقبلية، وتضمن الدفاع عن المملكة العربية السعودية.
ومع ذلك، في عام 2019، بعد سنوات من الاحتفاء السعودي بالرئيس السابق دونالد ترامب، في أعقاب هجوم إيراني على منشآت بقيق النفطية في السعودية، صُدم العديد من السعوديين عندما اكتشفوا أن الحكومة الأمريكية لم تنتقم نيابة عنهم.
إن إدراك أن السعودية بعد الحادثة كانت بمفردها، ولن تتمتع أبداً بضمانات أمنية شبيهة بتلك التي تتمتع بها إسرائيل في واشنطن، مهما كانت مؤلمة، ساعد في نهاية المطاف على تحفيز سنوات من محادثات السلام بين المسؤولين الإيرانيين والسعوديين في العراق وسلطنة عمان، ووصلت الآن إلى ختامٍ لها في بكين.
ربما كان السعوديون يفضلون أن يشهدوا حرباً أمريكية مدمرة ضد إيران، ما داموا قد مُنِحوا مظلة أمنية أمريكية خاصة بهم لحمايتهم من رد الفعل. ومع طرح هذا الاحتمال على الطاولة أصبح السلام تدريجياً هو الخيار الأكثر جاذبية.
صحيح أن السعودية وإيران لا تزالان تواجهان عقبات جدية يتعين التغلب عليها لتحقيق انفراج دائم، فاتفاق التطبيع له فترة تنفيذ مدتها شهران قبل عودة السفراء إلى عواصمهم، ما يتيح الوقت للأطراف الخارجية، بما في ذلك إسرائيل، التي اعترضت بشدة على الاتفاق، للعمل على إفساد هذا الاتفاق.
طريق شاق بعد اتفاق السعودية وإيران
لا يزال البلدان على طرفي نقيض من الصراع في اليمن، الذي لا يزال دون حل، ويشكّل تهديداً أمنياً خطيراً للسعودية، في حين تواجه إيران اضطرابات داخلية أنهكت حكومتها، وألقت باقتصادها إلى هوة الاضطراب.
تتضمن الصفقة اتفاقاً متبادلاً بين الطرفين على ابتعاد كل طرف عن الشؤون الداخلية للطرف الآخر، وهو بند سيتطلب أيضاً بعض التصحيحات الرئيسية في المسار. أشارت المملكة العربية السعودية، وفقاً لتقرير نُشر في صحيفة Wall Street Journal الأمريكية، إلى أنها ستعمل على تعديل تغطية محطة “إيران الدولية”، وهي محطة تلفزيونية باللغة الفارسية تمولها السعودية، وأصبحت منفذاً مفضلاً للنشطاء السياسيين الإيرانيين المناهضين للنظام، فضلاً عن المخابرات الإسرائيلية.
ورغم هذه التحديات، إذا استمر الاتفاق بينهما فإنه سيضع السعودية خارج خط إطلاق النار، لحملة أمريكية إسرائيلية محتملة لتدمير المنشآت النووية الإيرانية. ففي أعقاب قرار الولايات المتحدة بانتهاك الاتفاق النووي الإيراني، المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، يبدو أن احتمال نشوب نزاع مسلح أعلى من أي وقت مضى.
يبدو أن اتفاق السعودية مع إيران هو محاولة للابتعاد عن المعركة في حالة اندلاع الحرب، ومع ذلك فإنه يشير أيضاً إلى العزلة النسبية للولايات المتحدة في المنطقة، باستثناء علاقتها القوية بإسرائيل، حيث تمضي قدماً في حملة لعزل إيران، حتى شركاؤها بدأوا في رفضها.
قال المسؤولون الأمريكيون مراراً إنهم لن يصرفوا الانتباه عن الشرق الأوسط، ومع ذلك، فإن سجل الدولة في المنطقة لم يكن جيداً.
لقد عانى الأمريكيون من خسائر عسكرية ونكسات كارثية بسبب تدخلات النخبة. وشهد السكان المدنيون في المنطقة معاناةً أكثر خطورة، إذ قُتِلَ الملايين أو شُوِّهوا أو شُرِّدوا بسبب الحروب الأمريكية، أو عانوا في ظل أنظمة العقوبات الأمريكية، أو تعرضوا للقمع على يد الديكتاتوريات والاحتلال العسكري المدعوم من الولايات المتحدة.
الآن يبدو أن الولايات المتحدة قد استنفدت خياراتها لمواصلة مغامرات كارثية مماثلة في المستقبل. ورغم أن ذلك يتعارض مع مصالح أقلية صغيرة، ولكن واسعة النفوذ من الصقور في واشنطن، سيكون الابتعاد عن المنطقة علامة مرحباً بها للكثيرين، في أعقاب سنوات من الإخفاقات العسكرية والدبلوماسية.
الاتفاقيات الدبلوماسية الأمريكية الهزلية الأخيرة مثل اتفاقيات أبراهام لم يتبعها أي توقف فعلي للأعمال العدائية، وكانت تستند إلى حد كبير على التنازلات الأمريكية بدلاً من أية تنازلات قدمتها الأطراف المعنية. على عكس تلك الصفقات، يمثل التقارب الذي توسطت فيه الصين بين السعودية وإيران إنجازاً دبلوماسياً حقيقياً، اقتنعت فيه قوتان متنافستان بتقديم تنازلات باسم السلام.
المواقف المتطرفة للولايات المتحدة بشأن مختلف القضايا لم تقدم لها أي مصلحة. ففيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، على سبيل المثال، لا تُخفي الولايات المتحدة موقفها المنحرف المتمثل في الدعم المطلق لتل أبيب، رغم انتهاكات الأخيرة الخطيرة والمتكررة للقانون الدولي والإنساني.
وفيما يتعلق بقضايا مثل الاتفاق النووي الإيراني، كان موقف الولايات المتحدة غير منتظم، منتهكاً الاتفاقية بعد وقت قصير من توقيعها. هذا بينما أثبتت القوى الخارجية مثل الصين قدرتها على استغلال السقف المنخفض للأداء الدبلوماسي الأمريكي في المنطقة، ووضع نفسها كوسيطٍ مُفضَّل.
الشرق الأوسط بعيد بما فيه الكفاية عن الولايات المتحدة، لدرجة أن إثارة الفوضى المستمرة من خلال التدخلات العسكرية، والمساعي الدبلوماسية السيئة هناك قد تكون مقبولة سياسياً في واشنطن. ومع تولي القوى الصاعدة دوراً في المنطقة، وبينما تكافح الولايات المتحدة مع تحديات أخرى، قد يُمنَح الوضع الراهن الأكثر صحة مساحة للظهور.
وكما اعترف وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان آل سعود، بعد الإعلان عن صفقة التطبيع مع إيران، فإن “دول المنطقة تشترك في مصير واحد”.