حرية – (28/10/2023)
في كتابها “الحرب: كيف شكلنا الصراع” (War: How Conflict Shaped Us) الصادر عام 2020، تفتتح المؤرخة الكندية المتخصصة بتاريخ الحروب والعلاقات الدولية مارغريت ماكميلان فصلاً بعنوان “السيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه” بمقولة للزعيم الثوري المكسيكي الراحل بانشو ڤيا، هي “يبدو من المثير للضحك بالنسبة إلي وضع قواعد للحرب. إنها ليست لعبة، ما الفارق بين حرب متحضرة وأي نوع آخر من الحروب؟”.
تثير ماكميلان تساؤلات كثيرة، أبرزها كيف يمكننا الحديث أساساً عن إدارة شيء والسيطرة عليه في حين أن العنف هو أهم أدواته، وهزيمة العدو – إن لم نقل تدميره بالكامل – هي هدفه الرئيس؟
على كل حال، لم تكن هذه العوامل أبداً عائقاً يقف في وجه البشرية ويمنعها من محاولة صياغة قواعد وأسس لصراعاتها الممتدة على مدار آلاف السنين.
أسرى روس يتناولون الغداء في معسكر بغرب أوكرانيا
قواعد الحروب في الأزمنة القديمة
ليس هناك مصدر واحد يتناول القواعد والأخلاقيات المتعلقة بالقتال والحروب المتبعة في مصر الفرعونية، لكن نصوصاً كثيرة تطرقت إلى هذا النظام الذي كان يعتمد على القيم والتقاليد المصرية والمعتقدات الدينية في تلك الحضارة وأبرزها احترام الفرد والقائد، إذ توجب على الجنود والقادة الاحترام المتبادل والطاعة، فكان القادة مسؤولين عن سلامة جنودهم ومن واجبهم توجيههم بحكمة.
كذلك احترم الجنود المصريون الأسرى وتعاملوا معهم بإنسانية، إضافة إلى الأهمية البالغة التي أولوها لاحترام الآلهة ومعابدها وعدم تدنيسها خلال الصراعات والحروب، مع ضرورة التنويه إلى أن الأمور الدينية كانت شديدة الارتباط بالحروب.
من بين التقاليد التي كانت متبعة أيضاً تقديم التضحيات وتقديس الأبطال والقادة الذين يضحون في سبيل الدفاع عن الوطن، وإعطاء قيمة كبيرة للعدالة والشرف في القتال، ووجوب التزام الجنود والقادة بالقيم الأخلاقية.
في قلب العالم القديم، عثر على نص يعرف باسم “قانون الحرب السومري” أو “قواعد أور نمو” الذي يعد أقدم لائحة قوانين مكتشفة حتى الآن، إذ سبق قانون حمورابي بثلاثة قرون. من بين القوانين التي تناولتها الألواح المكتوبة باللغة السومرية مجموعة من القواعد واللوائح التي تنظم الحروب والسلوك العسكري في منطقة بلاد الرافدين. يعتقد أن هذا النص كتب نحو 2100-2050 ق.م، وهو يتضمن توجيهات لكيفية التعامل مع الأسرى والمدنيين وكيفية التصرف في الحروب. يظهر هذا النص الاهتمام الذي كان سائداً في حضارات تلك المنطقة بالعدالة والإنسانية خلال الصراعات ويتعامل مع قضايا مثل الاستعباد ودفع فدية الأسرى.
في أقصى الشرق يعود أحد أقدم الكتب المعروفة حول قواعد الحروب في التاريخ إلى الفيلسوف والعسكري الصيني القديم صن تزو ويحمل عنوان “فن الحرب” The Art of War. وضع تزو كتابه هذا في الصين القديمة نحو القرن الخامس قبل الميلاد، ويعد أحد أهم النصوص في مجال الأصول العسكرية واستراتيجية الحرب.
يتناول الكتاب مبادئ القيادة والتخطيط العسكري، ويقدم نصائح حول كيفية تحقيق الفوز في المعارك وتحليل نقاط القوة والضعف واستغلالها. ولا يزال هذا العمل إلى يومنا هذا قائماً كمصدر مثر للدروس في مجال الاستراتيجية والقيادة، ويهم العسكريون والقادة السياسيون على حد سواء على قراءته والنهل منه.
كان الصينيون يتبعون عديداً من القواعد والمبادئ في حروبهم على مر العصور، واستناداً إلى الأسس التقليدية للفلسفة الصينية والأدب العسكري الصيني، يمكن تلخيص بعض هذه القواعد بالتحضير والتخطيط، إذ كان الصينيون يولون اهتماماً كبيراً للتهيؤ الجيد قبل الدخول في حروب، إذ يضمن التخطيط الجيد للحملات العسكرية تحقيق الأهداف بكفاءة أكبر.
عرف عن الصينيين القدماء احترامهم لخصومهم وتعاملهم معهم بطريقة تحفظ كرامتهم، وكان هذا أسلوباً أسهم في تجنب التصعيد وإمكان التفاوض، وتميز الصينيون بقدرتهم على استغلال الطبيعة والعوامل الجغرافية في استراتيجياتهم العسكرية وكانوا من أوائل الشعوب التي وظفت الطبيعة لصالحها. كذلك لعب الاستماع إلى الأنباء عن العدو ورصد أخباره دوراً مهماً في تخطيط الصينيين واتخاذهم القرارات المهمة.
كان الصينيون أيضاً يظهرون مرونة وقدرة عالية على التكيف مع التغيرات في الميدان، ويؤمنون بضرورة تغيير الاستراتيجيات والتكتيكات بناء على الظروف في ساحة القتال. إلى جانب هذا تبنى الصينيون الذين كانوا يمتلكون جيوشاً برية وبحرية أساليب نفسية مثل الخداع وإشاعة الرعب في قلب العدو.
كانت الهند أيضاً سباقة في وضع واحدة من أقدم مجموعات القواعد المعروفة للحروب في نص قديم باسم “أرثشاسترا” Arthashastra ينسب إلى العالم الهندي كوتيليا الذي يعتقد أنه ألف النص نحو القرن الرابع قبل الميلاد، مما يجعله واحداً من أقدم الأعمال حول فنون الحكم واستراتيجية الحرب والزعامة.
يقدم هذا النص إرشادات حول جوانب مختلفة من الحروب، بما في ذلك تنظيم الجيوش والتكتيكات والجاسوسية والدبلوماسية، ويعتبر مصدراً تاريخياً مهماً لفهم الفكر العسكري والقيادة الهندية القديمة.
كانت هناك بعض القواعد والأخلاقيات المتبعة خلال الحروب متمثلة في مفاهيم ومبادئ متأصلة في الثقافة والديانة الهندوسية والبوذية، بالطبع كانت هذه القواعد تطبق بشكل مختلف على مر العصور وتتغير مع التطورات السياسية والاجتماعية، لكن حروب الهند القديمة بالعموم امتازت باحترام الأسرى والمدنيين، إذ كان على المحاربين الهنود احترام حقوق الأسرى وعدم التعامل معهم بقسوة، إضافة إلى وجوب صون المدنيين وعدم توجيه الأذى لهم. ولم يقتصر هذا المبدأ على البشر، بل شمل حتى الحيوانات وفي الدرجة الأولى الخيول التي شكلت جزءاً بارزاً من عتاد القتال. كانت مبادئهم تحث على عدم استخدام السموم في الحروب واحترام المقدسات والأماكن الدينية وعدم تدميرها وضرورة احترام العدو والقتال بشجاعة وأخلاقية. كذلك تشجع بعض النصوص الهندية القديمة على اللجوء إلى التوسل والمفاوضة كوسيلة لتجنب وقوع الصراعات العنيفة في المقام الأول.
في حوض البحر الأبيض المتوسط، وعلى رغم أن الفيلسوف الإغريقي سولون الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد لم يخصص كتاباً للحديث عن قواعد الحروب، إلا أن كتابه “قوانين سولون” Solon”s Laws الذي قدم قوانين تشمل تنظيم الشؤون المالية والاجتماعية وتوزيع السلطة، أسهمت في توجيه أثينا أكثر نحو الديمقراطية وقدمت نصائح في مجالات السياسة والحكم والأخلاق، وقام كذلك بتوثيق وتطوير بعض المفاهيم والقواعد التي سادت أثناء الحروب التي تعبر عن قيم الحضارة الإغريقية وأخلاقياتها، وأبرزها مفهوم الفضيلة والتفوق في القتال والحياة بشكل عام، ومفهوم الافتخار والغرور الزائد الذي كان يعد سلوكاً غير مقبول ومحل عقوبة في المجتمع الإغريقي ويجب تجنبه في القتال وفي الحياة. حضت المبادئ القتالية أيضاً على ضرورة احترام الجنود الإغريق إرادة الآلهة والقوانين الإلهية، التي كان يعتقد أنها تؤثر في نتائج الحروب والمصائر الفردية، إلى جانب احترام الأسرى والمدنيين وإيلاء اهتمام كبير للدعم العسكري واللوجيستي الذي يوفر الإمدادات للقوات بشكل كاف ومستمر.
في كتابه “أب أوروبي” Ab Urbe Condita (معروف أيضاً باسم “تأسيس المدينة”)، يستعرض المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس تاريخاً شاملاً لروما القديمة، يشمل تفاصيل عديدة عن الحروب والصراعات التي أثرت في الرومان والقواعد الأساسية التي اعتمدوها في صراعاتهم وأبرزها احترام العقلانية والتكتيك، إذ اشتهروا بتكتيكاتهم المحكمة وليس فقط تعويلهم على حجم القوة المتوفرة لديهم، وتقديمهم كثيراً من الابتكارات الهندسية في مجال الحروب، بما في ذلك استخدام الحصون والجسور العسكرية.
غلاف كتاب “الحرب: كيف شكلنا الصراع”
احترم الرومان الاتفاقات والعهود واعتبروها أموراً مقدسة وكانوا يسعون إلى الامتثال لها حتى في زمن الحرب، كان الأسرى الذين يقعون في أيدي الرومان يحظون بمعاملة إنسانية وكريمة، إضافة إلى تقدير الرومان ثقافات وهويات الشعوب التي يغزونها. عرف المقاتلون الرومان بمرونتهم وقدرتهم على التكيف مع طبيعة الحروب والتغيرات على الأرض ومهارتهم في التنظيم والتدريب العسكري الجيد لجنودهم، أكثر ما يميز القواعد الحربية الرومانية هو وجود نظام حكم ثابت وسلطة مركزية قادرة على تنظيم الجيش واتخاذ القرارات العسكرية.
قواعد وأخلاقيات الصراعات المعاصرة
بعد مرور العالم بحربين عالميتين مدمرتين، والتطور الهائل في الأسلحة التي شملت قنابل نووية قادرة على مسح البشرية عن سطح البسيطة، كان لا بد من وجود مرجع يتعلق بالقوانين والقواعد الدولية التي تنظم سلوك القوات المسلحة أثناء النزاعات والحروب. يعرف هذا المرجع باسم “دليل قانون الحرب للقوات المسلحة” ويشرح الالتزامات والقواعد التي يجب أن تخضع لها القوات المسلحة أثناء تنفيذ مهماتها في سياق النزاعات.
يهدف هذا الدليل إلى توضيح قوانين الحرب والقواعد الدولية السارية التي تحدد سلوك القوات المسلحة وتحمي الأفراد المدنيين والمصابين والأسرى والممتلكات المدنية خلال الصراعات، يعتبر هذا الدليل أداة مهمة للقوات المسلحة لضمان امتثالها للقوانين الدولية وللمساهمة في تقليل الأضرار المدنية وتعزيز احترام حقوق الإنسان، يعتمد محتوى هذا الدليل على الاتفاقات والمعاهدات الدولية، مثل اتفاق جنيف والبروتوكولات الإضافية المتعلقة، ويعد وسيلة تدريب وتوعية للقوات المقاتلة ومرجعاً لضمان الخضوع للقوانين الدولية أثناء أداء المهمات العسكرية.
تم تبني اتفاقات جنيف الأربعة في عام 1949، ويشمل الاتفاق الأول حماية الجرحى والمرضى في الميدان، والثاني لحماية المصابين والمرضى والبحارة المشردين في البحر، والثالث لمعاملة أسرى الحرب، والرابع لحماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة. أما البروتوكولات الثلاثة الإضافية لاتفاقات جنيف فتم تبنيها بين عامي 1977 و2005 لتعزيز حماية الضحايا، إذ ينص البروتوكول الإضافي الأول على مبدأ “التناسب” الذي يفرض إيجاد توازن بين الأهداف العسكرية الهجومية وتأمين الاحتياجات الإنسانية. ويشكل البرتوكول الثاني أول معاهدة تنطبق على الحروب الأهلية وحدها، أي تلك التي تنشب ضمن دولة واحدة، وتضع قيوداً على استخدام القوة في هذا النوع من النزاعات، أما الإضافة الثالثة فنصت على وضع شارة جديدة أطلق عليها الكريستالة الحمراء إلى جانب شارتي الصليب الأحمر والهلال الأحمر، ويحظر هذا الملحق استخدام هذه الشارات من أي كيان غير مصرح به.
قدمت الكاتبة السويدية إنغريد فرانكوبان في كتابها “قانون الحرب” The Law of War الصادر عام 2000 نظرة شاملة لقوانين الحرب، بما في ذلك تاريخ هذه القواعد وتطورها، والمبادئ التي تقوم عليها وتطبيقاتها في الصراعات الحديثة التي تشمل حماية المدنيين والمصابين والمرضى والأسرى ومعاملتهم بإنسانية، وتقليل الأضرار البيئية مثل منع تلوث المياه وتدمير البنى التحتية البيئية، والحيلولة دون استخدام الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وصون الأماكن الثقافية من التدمير والسرقة، ومكافحة الاستبداد والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وحظر الألغام الأرضية وتأكيد ضرورة وجوب مساءلة ومحاسبة أولئك الذين ينتهكون قوانين الصراع ويرتكبون جرائم الحرب وتقديمهم للعدالة.
المساءلة والمحاسبة من أجل حروب “أكثر إنسانية”
في هذا الصدد يستعرض “دليل جامعة أكسفورد للقانون الدولي في النزاعات المسلحة” The Oxford Handbook of International Law in Armed Conflict الأطر القانونية الدولية والمحلية للتعامل مع مخالفات قواعد الحروب وجرائم الحرب، إذ تهدف إلى ضمان المساءلة والعدالة وحماية حقوق الضحايا. أبرز هذه الأطر هو المحكمة الجنائية الدولية التي كان الهدف من تأسيسها المساءلة عن انتهاكات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إلى جانب المحاكمات الخاصة التي قد تتشكل في بعض الحالات من أجل مقاضاة الأفراد الذين ارتكبوا جرائم حرب، مثلما حدث مع محكمة يوغوسلافيا الخاصة.
تمتلك المحاكم الوطنية في عديد من الدول أنظمة قانونية تسمح بمحاكمة الأفراد الذين ارتكبوا جرائم حرب، وأحياناً تتعاون هذه الهيئات القضائية الوطنية مع جهات دولية لضمان أن تتم المحاكمات بشكل عادل، إلى جانب اعتمادها على تشريعات وأنظمة قانونية وطنية لمحاسبة المتورطين في مخالفة قواعد الحروب داخل حدود أراضيها. من الممكن أيضاً أن يلعب الخبراء الدوليون واللجان الدولية دوراً مهماً في جمع الأدلة ورصد انتهاكات قواعد الحروب، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر والأمم المتحدة.
قد يبدو وجود قوانين وقواعد متعلقة بالحروب والصراعات أمراً متناقضاً وعبثياً بالنسبة إلى بعض الأشخاص، إلا أنها تلعب دوراً مهماً في تحديد سلوك الدول والكيانات أثناء الصراعات. ربما يشعر المرء بأن وجوب التزام الأفراد والجيوش بالأخلاق والقيم وسط العنف والصراع هو ضرب من الخيال، لكن هذه القواعد تحمل قيماً أساسية تتعلق بحقوق الإنسان والإنسانية وتحاول تقليل معاناة الأبرياء والمدنيين، كما أنها تسعى إلى تحديد حدود الاستخدام المشروع للقوة والسلوك العدائي.
ومن المؤسف أن التقيد بمثل هذه القواعد لا يعد مضموناً دائماً، وكما بات واضحاً حتى بالنسبة إلى الجهات التي تختار التعامي، فإن العالم يشهد اليوم عديداً من الصراعات التي تتجاوز فيها هذه الأسس مع الخلط بين الحاجة إلى الدفاع عن النفس والاعتداء على حقوق الآخرين الإنسانية. أكثر من أي وقت مضى من الضروري الآن العمل على تعزيز مفهوم احترام القوانين الدولية وتعزيز مساءلة الأفراد والجهات الدولية التي تنتهك هذه القوانين، والأهم من ذلك إدراك أن الدبلوماسية والتفاوض وسائل أولى لحل الخلافات، وربما لدينا ما يكفي من الأحداث التاريخية القيمة لتعلم هذا الدرس.