حرية – (15/6/2024)
في قلب مكة المكرمة، تقف الكعبة المشرفة شاهداً على عمق الإيمان وتجدد الروح الإنسانية عبر الأزمان. كسوة الكعبة، بحلتها السوداء المهيبة، ليست مجرد قطعة من النسيج، بل رمز من رموز الوحدة والتقديس في الإسلام.
تتجدد هذه الكسوة سنوياً في مراسم تعكس الإتقان والدقة، وتحمل في طياتها حكايات الحرفية العريقة والتفاني في العمل. في هذا المقال، نستكشف أسرار هذا الرمز الفريد، من تاريخه العريق ومراحل تطوره، إلى الفنون والحرف التي تشترك في صناعته بالإضافة إلى سبب رفع الكسوة بمقدار 3 أقدام خلال موسم الحج.
الحكمة من كسوة الكعبة
كسوة الكعبة المشرفة، ذلك الرداء الأسود الذي يزين قلب الإسلام في مكة المكرمة، تمثل أحد الشعائر الإسلامية العميقة التي ترمز إلى الاحترام والتقدير لهذا المكان المقدس. منذ فتح مكة على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم في العام التاسع الهجري، توارث المسلمون هذه العادة حيث كسا النبي الكعبة بثياب يمانية، بتكلفة مغطاة من بيت مال المسلمين.
في ذلك الوقت، حافظ النبي محمد على كسوة الكعبة القديمة حتى احترقت بسبب حادث، ليستبدلها بعدها بأخرى جديدة. وقد تبعه في هذا الخلفاء الراشدون؛ أبو بكر وعمر اللذان كسا كل منهما الكعبة بأقمشة يمانية فاخرة، وكان عثمان بن عفان أول من كساها بكسوتين متتاليتين، ما يعد تقليداً بدأ في عهده واستمر لاحقاً في التاريخ الإسلامي.
تأتي كسوة الكعبة ليس فقط كجزء من تقدير المسلمين للبيت الحرام، ولكنها تعتبر أيضاً تعظيماً له كما جاء في القرآن الكريم: “ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ”. وقد استمر هذا التقليد مروراً بالعديد من المراحل التاريخية، حيث تعهد ملوك وسلاطين المسلمين بكسوة الكعبة، مؤكدين على هذه العادة المستمرة حتى يومنا هذا.
كسوة الكعبة من قبل الإسلام إلى العصر الحديث
كسوة الكعبة المشرفة تمثل تقليداً عميق الجذور يعود إلى العصور الجاهلية، حيث كانت تعبر عن التقدير والتكريم لهذا المكان المقدس. تشير الروايات إلى أن تبع الحميري، ملك اليمن، هو أول من كسا الكعبة بشكل كامل قبل الإسلام.
أدخل تبع الحميري أيضاً تحسينات على بنية الكعبة بإضافة باب ومفتاح لها، وتوالت بعده كسوات مختلفة من الخصف والجلود. كان العرب يعتبرون كسوة الكعبة واجباً دينياً يجب المحافظة عليه، وكانوا يكدسون الكسوات فوق بعضها حتى تبلى، ثم يقومون بإزالتها.
خلال عهد قصي بن كلاب، الجد الرابع للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، حدث تنظيم مهم لمهمة كسوة الكعبة. قصي بن كلاب الذي جمع قبائل قومه تحت لواء واحد، قدم نظاماً يعتمد على التعاون بين القبائل لكسوة الكعبة، حيث كانت الكسوة تُعتبر ثمرة “الرفادة” أو المعاونة التي تشارك فيها القبائل.
فيما يعتبر أبو ربيعة عبد الله بن عمرو المخزومي، أحد تجار قريش الثرياء، من أسس نظاماً يقضي بأن يتناوب هو وقريش في كسوة الكعبة سنوياً.
- الكسوة في عهد النبي محمد والخلفاء الراشدين:
بعد فتح مكة، أبقى النبي محمد على كسوة الكعبة كما كانت حتى احترقت أثناء محاولة إحدى النساء تبخيرها. بعد ذلك، كساها النبي بثياب يمانية وتبعه الخلفاء الراشدون في هذا التقليد. أبو بكر وعمر كسا كل منهما الكعبة بثياب القباطي، بينما كساها عثمان بن عفان بثياب القباطي والبرود اليمانية. علي بن أبي طالب لم ترد روايات تفيد بأنه كسا الكعبة، نظراً لانشغاله بالفتن التي حدثت في عهده.
- الدور النسائي في كسوة الكعبة:
نُتيلة بنت جناب، زوجة عبد المطلب وأم العباس، كانت أول امرأة في التاريخ تكسو الكعبة وحدها كنذر لعودة ابنها العباس. يُظهر هذا الدور النسائي المميز في تاريخ كسوة الكعبة كيف كانت النساء أيضاً جزءاً فعالاً في تكريم هذا المكان المقدس
- كسوة الكعبة في العصر الحالي:
تُعد كسوة الكعبة المشرفة من الطقوس الدينية الهامة التي تحظى بمكانة كبيرة في قلوب المسلمين، حيث كانت تُرسل إلى المملكة العربية السعودية من مصر عبر العصور، وذلك حتى العام 1381هـ. خلال هذه الفترة، أحياناً ما كانت الأسباب السياسية تعيق استمرارية الإرسال، لكن في النهاية اختصت المملكة بصناعة الكسوة بشكل دائم.
في العام 1345هـ، توقفت مصر مؤقتاً عن إرسال الكسوة بسبب حادثة المحمل الشهيرة، ما دفع المملكة لتبني مسؤولية صناعة الكسوة محلياً. تم إصدار الأمر بسرعة بصناعة كسوة جديدة من الجوخ الأسود الفاخر، وقد تم تجهيزها في وقت قياسي لتلبس الكعبة في يوم النحر، مما شكّل لحظة تاريخية بارزة.
في مطلع شهر محرم من العام التالي 1346هـ، تم إنشاء دار خاصة بصناعة الكسوة في محلة أجياد بمكة المكرمة، أمام دار وزارة المالية العمومية. تم بناء هذه الدار خلال ستة أشهر وتُعد أول مؤسسة متخصصة في صناعة كسوة الكعبة بالحجاز منذ العصر الجاهلي.
خلال فترة بناء دار الكسوة، بذلت المملكة جهوداً كبيرة لتأمين الإمكانيات اللازمة للصناعة، من حرير ومواد صباغة وأنوال للنسيج، إلى جانب توفير الفنيين الماهرين لمختلف مراحل الصناعة. استمرت دار الكسوة في عملها حتى عام 1358هـ، حينما تم استئناف إرسال الكسوة من مصر بعد توقيع اتفاق مع الحكومة السعودية.
مع مرور الوقت ونظراً لتغير الظروف السياسية، توقفت مصر عن إرسال الكسوة في العام 1381هـ، مما دفع المملكة لإعادة فتح وتشغيل مصنع الكسوة بحي جرول في مكة. وبحلول العام 1397هـ، تم نقل الإنتاج إلى مصنع كسوة الكعبة المشرفة في أم الجود، حيث يستمر إنتاج الكسوة الشريفة إلى يومنا هذا.
مراحل تصنيع الكسوة
تصنيع كسوة الكعبة المشرفة هو عمل فني دقيق ومعقد يتطلب الكثير من الخبرة والعناية بالتفاصيل. الكسوة الخارجية، المستخدم فيها نظام الجاكارد، يشتمل على عبارات وآيات قرآنية منسوخة، ويتم تجهيزها بشكل يسمح بإضافة المطرزات بعد ذلك. فيما يلي، نستعرض بعض الجوانب التقنية والفنية لهذا العمل المهم.
تعتبر مرحلة الصباغة هي أولى مراحل الإنتاج الخاص بكسوة الكعبة، إذ يزود قسم الصباغة بأفضل أنواع الحرير الطبيعي الخالص في العالم، ويتم تأمينه على هيئة شلل خام، عبارة عن خيوط مغطاة بطبقة من الصمغ الطبيعي تسمى “سرسين” تجعل لون الحرير يميل إلى الاصفرار، ويتم استيرادها من إيطاليا.
العملية تبدأ بتحويل الخيوط المصبوغة إلى كونات خاصة لتجهيزها على كنة السدى، حيث تحتوي كل كنة على عدد محدد من الخيوط وفقاً لأطوال الأمتار المطلوب إنتاجها. خيوط السدى للكسوة الخارجية، التي تضم حوالي 9986 فتلة في المتر الواحد، تجمع بجانب بعضها البعض على أسطوانة تُعرف بمطواة السدى.
تسمى هذه المرحلة “التسدية”، حيث تمر الأطراف الأولى لهذه الخيوط خلال أسنان الأمشاط الخاصة بأنوال النسيج وتوصل إلى مطواة السدى التي تلف آلياً حسب الطول المحدد.
بعد التسدية، تُنقل خيوط السدى إلى مطواة المكنة نفسها بالطول والعدد المطلوب. خيوط اللحمة “العرضية” تُجمع كل ست فتلات منها في فتلة واحدة على كونات خاصة تزود بها مكنة النسيج. عدد خيوط اللحمة يبلغ 66 فتلة في كل 1 سم، مما يعكس كثافة النسيج الخاص بالكسوة الخارجية، الذي يُصمم ليتحمل العوامل الطبيعية لمدة عام كامل.
قسم الطباعة يجهز القماش الخالي، الذي يُستخدم لطباعة الآيات والزخارف. يتم تجهيز الأقمشة للطباعة باستخدام نظام الجاكارد، حيث تُعد الشبلونات أو الشاشة الحريرية لنقل التصميمات على القماش. بعد الطباعة، يتم التطريز باستخدام خيوط الفضة والذهب، وذلك بوضع خيوط قطنية بكثافات مختلفة تحت التصميم ليبرز بشكل ثلاثي الأبعاد على القماش.
أخيراً، يُجمع القماش المطبوع والمطرز بدقة على الكسوة. يتم تثبيت القطع بعناية فائقة لضمان الدقة والجودة العالية للكسوة النهائية، وتُخاط القطع باستخدام مكائن خياطة آلية تعمل بنظام تحكم آلي متطور.
إحرام الكعبة خلال موسم الحج
كسوة الكعبة المشرفة، بثقلها التاريخي والروحي، تمثل أحد الشعائر الإسلامية البالغة الأهمية. تتميز هذه الكسوة بوزنها الذي يبلغ 850 كيلوغراماً وتقسيمها إلى 47 قطعة قماش، كل قطعة بعرض 98 سنتيمتراً وارتفاع 14 متراً. هذه القطع مزينة بخيوط من الذهب والفضة، بالإضافة إلى 54 قطعة مذهبة تضفي رونقاً وجمالاً على الكعبة.
يتم تطريز الكسوة في قسم خاص بمجمع الملك عبد العزيز لكسوة الكعبة، حيث يستخدم حوالي 120 كيلوغراماً من المذهبات و100 كيلوغرام من الفضة المطلية بماء الذهب، بالإضافة إلى 760 كيلوغراماً من الحرير.
تفوق تكلفة إنتاج وتصنيع الكسوة السنوية 20 مليون ريال سعودي. تنتهي هذه العملية في منتصف شهر ذي القعدة، حيث يقام طقس سنوي يتم خلاله تسليم الكسوة إلى كبير سدنة بيت الله الحرام، الذي بدوره يقوم بتسليمها إلى الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام.
قبل موسم الحج سنوياً، تقوم الهيئة العامة للعناية بشؤون الحرمين برفع الجزء السفلي من الكسوة بمقدار 3 أمتار، وتغطيته بإزار من القماش القطني الأبيض. هذه العملية، المعروفة بـ “إحرام الكعبة”، تهدف إلى حماية الكسوة من التلف والتمزق خلال الطواف، وتعتبر إشارة إلى قرب حلول موسم الحج.
هذه العادة لها جذور تاريخية تعود إلى صدر الإسلام، حيث كان رفع أستار الكعبة يعلن عن بدء موسم الحج. استخدام اللون الأبيض في الإزار يرمز إلى الطهارة ويعلن عن دخول وقت الحج، مما كان يُعد في الماضي وسيلة مهمة للإعلان قبل توفر وسائل الاتصال الحديثة.
عملية رفع ستار الكعبة تتم بمساعدة مختصين من مجمع الملك عبد العزيز لكسوة الكعبة، حيث يتم طي الستار المكسو بالحرير الأسود المخطوط بآيات قرآنية للأعلى، لتجنب العبث به ولإتاحة الفرصة للطائفين لرؤية الكعبة مرفوعة الستار.
تغيير كسوة الكعبة
تغيير كسوة الكعبة المشرفة هو حدث سنوي مهيب يجري في يوم عرفة، مواكباً لأداء الحجاج لفريضة الحج. هذه العملية لا تتمثل فقط في تجديد ثوب الكعبة، بل هي تعكس أيضاً الاحترام والتقدير لهذه الشعيرة الدينية المقدسة.
بعد صلاة العصر في يوم عرفة، يتم استبدال كسوة الكعبة القديمة بالكسوة الجديدة. يبدأ الفنيون باستخدام سلم كهربائي في تثبيت الكسوة الجديدة على واجهات الكعبة الأربعة، مع تثبيت القطع في عرى معدنية خاصة. يتم تشبيك قطع الثوب بعضها ببعض، بما في ذلك تثبيت قطع الحزام وقطع الزينة الأخرى، مع الحرص على ألا تبقى واجهات الكعبة مكشوفة.
تُغسل الكعبة مرتين سنوياً باستخدام ماء زمزم ومزيج من دهن العود وماء الورد، حيث يتم تنظيف الأرضية والجدران من الداخل. هذه العملية تعكس الحرص على النظافة والطهارة المستمرة لهذا المكان المقدس.
كل كسوة تستخدم حوالي 670 كيلوغراماً من الحرير الطبيعي و150 كيلوغراماً من خيوط الذهب والفضة، وتكلفة كل ثوب تقريباً 17 مليون ريال سعودي. هذه الأرقام تعبر عن الجهد والموارد التي تُستثمر في صناعة هذا الثوب الفخم.
الحافظ في “الفتح” يذكر إجماع المسلمين على جواز ستر الكعبة بالديباج، ويروي عن السلف الصالح كيف كانوا يقسمون كسوة الكعبة القديمة على الحجاج والمساكين، مما يعكس التقدير والبركة المرتبطة بهذا الثوب.
أخيراً، يرفع ثوب الكعبة قبل بدء موسم الحج لمنع الحجاج من تمزيقه للحصول على قطع طلباً للبركة. الثوب القديم يُقدم كهدايا لكبار الضيوف والمؤسسات الدينية، مما يضفي على الكسوة القديمة قيمة روحية وتاريخية إضافية.