حرية ـ (10/9/2024)
يتمتع “هيكاتي كافيه آند إلكسير لونج” Hekate Café and Elixir Lounge ، في قلب منطقة “إيست فيلدج” بنيويورك، بكل مقومات الحانة العصرية. إذ تصطف مجموعة مختارة من البيرة والمشروبات الروحية على الجدران، ويتجاذب أطراف الحديث زوار جدد وآخرون اعتادوا المجيء والاستمتاع بالأجواء الساحرة ويتفحصون كتب التعاويذ وأوراق التارو المعروضة كلها للبيع، على وقع أنغام موسيقى الروك البديل التي تعزز من روح المكان.
بيد أن السر الجوهري لـ”هيكاتي” يكمن في أن جميع المشروبات في هذا الحانة خالية تماماً من الكحول.
وفي حديث مع مراسل “اندبندنت”، قال أحد رواد المكان الدائمين “إن هذه الحانة هي إحدى المعاقل الأخيرة في نيويورك القديمة التي يقصدها أفراد من مجتمع الكوير ومنجمون ويساريون غريبو الأطوار مثلي، فيتشاورون ويتسامرون ويتبادلون القصص والروايات ويقضون أوقاتهم معاً”.
لكن بالطبع، لا تقتصر قاعدة زبائن “هيكاتي” على هذه الفئات من المجتمع، لأن الطابع الشمولي والترحيبي لهذا النوع من الحانات، والتحول الملاحظ في سلوكيات المجتمع المعاصر تجاه استهلاك الكحول، يزيدان من رواج هذا المفهوم [الجديد] ومن انتشاره في أرجاء الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، لفتت مجموعة “بوسطن الاستشارية فإن البدائل غير الكحولية تشكل أحد أسرع القطاعات الفرعية نمواً في سوق المشروبات الكحولية بشكل عام، مع تجاوز قيمة مبيعات أصناف البيرة والنبيذ والمشروبات منخفضة أو منعدمة الكحول حاجز 13 مليار دولار.
وبحسب جين ألمونتي الذي يشغل وظيفة “النادل غير الثمل” في “هيكاتي” منذ انطلاقة المكان غير الرسمية عام 2022، تشهد هذه الحانة ونظراؤها شعبية متزايدة باستمرار، معتبراً أن هذا النمو يعزى إلى أكثر من سبب.
وشرح لـ”اندبندنت” قائلاً “إنني عملت خلال جائحة ’كوفيد‘ وبدأت ألاحظ تغييراً في سلوك الناس، إذ باتوا أكثر تقبلاً لفكرة الحانات التي لا تقدم مشروبات كحولية، ومن ثم راحوا يتجهون نحوها بشكل متعمد”، مضيفاً “وخلال فترة الإغلاق التام، ومع بقاء الناس في منازلهم لفترات مطولة وزيادة استهلاكهم للكحول، أعتقد أن كثيرين اكتسبوا عادات سيئة ومضرة”.
ومع انتهاء الإغلاق التام وعودة المياه لمجاريها، بدأ كثيرون يدركون الحاجة إلى إعادة تقييم علاقتهم بالكحول، فكان الجيل الشاب في طليعة الفئات التين تصدرت جهود تغيير سلوك الناس وتحملت مسؤوليته.
وفي سياق متصل، وجدت دراسة حديثة أجرتها شركة “أن سي سوليوشنز” NCSolutions أن نسبة الأشخاص المنتمين إلى “الجيل زد” (وهم الأفراد الذين ولدوا ما بين عامي 1997 و2002)، ممن قرروا خفض استهلاكهم للكحول في عام 2024، ارتفعت بـ53 في المئة مقارنة مع السنة الماضية. كما وجدت أن نسبة 61 في المئة منهم، أي أكثر من نصفهم، قرروا تخفيف استهلاكهم للمشروبات الكحولية، مقارنة بـ40 في المئة فقط قرروا ذلك عام 2023.
وفي زيارتها الأولى لحانة “هيكاتي”، تفيد إيللي (24 سنة) بأن امتلاك الخيار بطلب “ما يشبه مشروب الكوكتيل” يسمح بالتخلص من ضغوط المجتمع في المناسبات [التي تستوجب تفاعلاً مع الناس]. أما صديقتها يونا (26 سنة) القادمة من خارج المدينة، فلا تشرب أبداً. وقالت هذه الأخيرة لـ”اندبندنت”، “ما أجمل أن يفتتحوا مكاناً يكون في أساسه شاملاً للجميع”. وأضافت أن “ذلك يفسح المجال أمام عدد أكبر من الخيارات، والناس طبعاً يتوقون للحصول على مزيد من الخيارات”.
وبلا أدنى شك، توفر الحانات التي تمتنع عن تقديم الكحول، مثل حانة “هيكاتي”، فسحة تفاعل مميزة للأشخاص الذين يتوقون إلى تجربة أجواء البارات التقليدية، على رغم رغبتهم أو حاجتهم إلى تجنب المشروبات الكحولية لأسباب شخصية.
وبالطبع، يتفهم مدير “هيكاتي” إليوت إيدج هذه العقلية، كونه من الأشخاص الذين يعملون في قطاع الضيافة منذ سن الـ16، وهو كان نادلاً في حانات عديدة إلى أن أصبح مدمناً للكحول، وخسر أربع وظائف في ظرف خمس سنوات، ومن ثم دخل مصح إعادة تأهيل في عام 2022. وعندما خرج منه كان حائراً ومرتبكاً، إلى أن اكتشف “هيكاتي”.
وروى لـ”اندبندنت” قائلاً: “صحيح أنني أعشق عملي كنادل في الحانة، لكن الأهم هو أنني أمارس هذا العمل هنا بطريقة لا تؤدي إلى تسميم أي حد”.
وبالكلام عن المشروب غير الكحولي الأحب إلى قلبه من بين المشروبات التي يعدها، تحدث عن كوكتيل “درابر” Draper الذي يذكر بمشروب “أولد فاشيوند” Old Fashioned التقليدي. والملفت أن حانات غير كحولية أخرى تتعمد الإشارة برمزية لغياب الكحول، مدرجة على قوائمها مشروبات على غرار “نادا كولادا” nada colada [وهو مشروب بينيا كولادا من دون كحول]، و”فوني نيغروني” phony negroni [أي مشروب “نيغروني” الزائف].
ويقول إليوت: “بإمكاني تحضير مشروب بنكهة تشبه المشروبات الكحولية، على رغم أنه لا يحتوي على أي كحول. وأستطيع إعداد مشروب لا يمت للمشروبات الكحولية بأية صلة”، قبل أن يضيف أن “بعضاً منهم قد يجدون أنفسهم في حيرة من أمرهم”.
أما باركر (29 سنة)، الذي تخلى أخيراً عن الكحول لأسباب صحية، فيزور المكان للمرة الأولى. ويقول “إن ما يلفتني ويجذبني هو أن هذا المكان يذكر بالحانة الحقيقي”.
وقال ضاحكاً: “شعرت بالحزن لمجرد التفكير في الابتعاد عن الكحول بسبب شعوري بالغربة في الأماكن التي تقدم مشروبات كحولية. ولهذا، تثير هذه الحانة اهتمامي. وما لا شك فيه هو أنه يستقطب جمهوراً مختلفاً، مع أن ذلك قد يكون إيجابياً”.
في الواقع، لم يخطئ باركر التقدير. وفي حديثها مع “اندبندنت”، شددت شابة من زوار الحانة الدائمين، فضلت عدم الكشف عن هويتها الكاملة، على أنه “مكان يجتمع فيه منبوذون، ومدمنو الدراسة، ومحبو التنجيم، ويساريون، فيدخلون في نقاشات لا تخرج يوماً عن إطار التهذيب والاحترام”.
وقالت “إن غياب الكحول يجعل المكان أكثر أماناً لكن الناس يبحثون عن بعضهم بعضاً. وبالطبع، يعتبر التعرف إلى شخص جديد والتقرب منه لمعرفة طباعه أسهل، متى كان الجميع واعين وغير ثملين”.
واللافت أن هذه الزائرة، التي تتردد إلى المكان بانتظام، جالسة برفقة رجل له من العمر 78 سنة، ويعرفه أصدقاؤه باسم “بوب سيء السمعة”. كلاهما ليس في حالة اتزان كامل، إلا أن بوب يعترف بحبه لهذا المجتمع ولـ”الأحاديث الشيقة” التي تدور فيه.
واليوم، يمكنك أن تجد حانات خالية من الكحول في مختلف أرجاء الولايات المتحدة، بما فيها تكساس، وفلوريدا، وكولورادو، وكاليفورنيا، إضافة إلى عدد من الولايات الأخرى. ومع أنها لا تمثل تهديداً للحانات النظيرة التي تقدم المشروبات الكحولية، لا شك في أنها تلقى رواجاً كبيراً.
ويؤكد إليوت إنه “في’هيكاتي‘، سيبقى يراودك شعور بأنك جئت إلى حانة، كونك ستمر بالتجربة التقليدية وهنا القصة – ستعيش التجربة من دون أن يصيبك أي صداع في صباح اليوم التالي”.