حرية – 11/1/2021
سلط تقرير تحليلي، الضوء على ارتفاع وتيرة الاحتجاجات مؤخراً في إقليم كردستان وعلى وجه الخصوص محافظة السليمانية، التي تطالب بصرف مستحقات الموظفين وتحسين المستوى المعيشي، في وقت تشهد فيه الساحة السياسية بين الإقليم وبغداد تحركات حكومية لحل المشاكل المتعلقة بملف النفط والمستحقات المالية.
ويقول التقرير الذي نشره موقع “EPC”، وتابعته “حرية”، (11 كانون الثاني 2021)، “يبدو أن حكومة الإقليم تواجه خياران: إما الرضوخ لشروط الحكومة المركزية، أو مواجهة احتجاجات شعبية جديدة قد تتسع لتشمل مناطق سيطرة حزب بارزاني في أربيل ودهوك، وقد تُؤدي إلى تفاقم الخلافات بين الحزبين الرئيسين في الإقليم، ما يُفضي إلى انقسام الإقليم”.
وتالياً نص التقرير:
نتيجة للأزمة المالية والسياسية، والتأخر في صرف رواتب الموظفين، ورفْض الكتل الكردية التصويت على قانون الاقتراض الذي أقره مجلس النواب العراقي في نوفمبر الماضي، نزل آلاف المتظاهرين إلى شوارع إقليم كردستان في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر 2020. وقام المحتجون بحرق مقار أحزاب في السليمانية، وقطع الطرق بالإطارات المحترقة، في حين قامت الأجهزة الأمنية بحملات قمع واعتقال، واستخدام الرصاص الحي لتفريق المحتجين، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى في صفوف المحتجين.
ورغم أن معظم التظاهرات اقتصرت على محافظتي السليمانية وحلبجة الخاضعتين لسيطرة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، فإنها تشير إلى الخطر المتفاقم الذي قد تتسبب به الأزمة الاقتصادية في عموم الإقليم، وبخاصة أنها تأتي في توقيت يوشك فيه الإقليم على الانقسام، فيما وصلت الخلافات بين بغداد وأربيل إلى مرحلة الذروة، لذا سارع الإقليم إلى إرسال وفد برئاسة قوباد طالباني، نائب رئيس وزراء الإقليم والقيادي في الاتحاد الوطني، إلى بغداد للتوصل إلى حل لقضايا الميزانية والرواتب.
أسباب الاحتجاجات
بدأت الاحتجاجات في 5 ديسمبر 2020 واستمرت نحو أسبوع كامل، في محافظتي السليمانية وحلبجة اللتين يسيطر عليهما حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني” بزعامة لاهور جنكي وبافل طالباني، بخروج المئات من الموظفين احتجاجاً على استمرار الاستقطاعات في الرواتب وتأخر صرفها، لتتسع في الأيام التالية وتشهد حرق مقار الأحزاب الكردية، سواء كانت مشاركة في الحكومة مثل “الحزب الديمقراطي” و”الاتحاد الوطني” وحركة “التغيير”، أو غير مشاركة مثل “الجماعة الإسلامية” و”الاتحاد الإسلامي”. وعدا عن القمع الأمني لهذه المظاهرات، فرضت السلطات حظر التجول والسفر وتم قطع خدمة الإنترنت. وبحسب إحصائية لمركز “ميترو” للدفاع عن حقوق الصحافيين، ومقره السليمانية، فإن الاشتباكات مع قوات الأمن الكردية أدت إلى مقتل 10 أشخاص، وجرح أكثر من 120 شخصاً، واعتقال أكثر من مئة متظاهر.
لم يتسلم موظفو الإقليم سوى راتبين في الأشهر الستة الأخيرة، مع اقتطاع نحو خمس الراتبين أيضاً، فقد كانت الحكومة المحلية في الإقليم قد أقرت استقطاع نسبة 20 في المئة من معاشات الموظفين التي تُصرف عادةً كل 40 أو 45 يوماً بعد أن كانت شهرية قبل الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد عموماً بسبب تراجع أسعار النفط والإغلاق الذي سببه وباء كورونا في الربع الأول من عام 2020، إضافة إلى تعثر الاتفاق بين بغداد وأربيل الذي أُقر قبل نهاية عام 2018 وينص على صرف رواتب موظفي الإقليم من قبل الحكومة المركزية مقابل تعهد أربيل بتسليم 250 ألف برميل يومياً من نفط الإقليم إلى شركة النفط الوطنية “سومو”، والسبب هو الديون الكبيرة المترتبة على الحكومة الكردية لصالح شركات النفط العالمية التي غادرت الإقليم بالتزامن مع سيطرة “داعش” على المناطق القريبة من كردستان، وتراجع أسعار النفط، وطعن بغداد بالعقود التي أبرمتها دون مواقفة السلطات الاتحادية.
كل تلك الأسباب وغيرها جعلت من المواطن الكردي في السليمانية، الذي يَعيش هامشَ حرية مقبولاً مقارنة بالتشدد الأمني الذي يفرضه الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني في محافظتي أربيل ودهوك، ينتفض ضد “فساد” الأحزاب السياسية التي يتمتع قادتها بوضع مادي جيد ولا يتأثرون بالأزمات الاقتصادية المتعاقبة، فيما تعاني الطبقات العاملة من وضع اقتصادي صعب منذ سنوات، وفيما تُوجه بعض الأطراف السياسية في السليمانية، مثل “الجيل الجديد” وشخصيات من “الاتحاد الوطني” وحركة “التغيير” ، الاتهام إلى “الحزب الديمقراطي الكردستاني” الذي يسيطر على حكومة الإقليم بإفشال المفاوضات مع بغداد، والاستئثار بالقرارات المتعلقة بالنفط، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الأزمات في الإقليم.
وأمام هذه الأحداث، أصدر رئيس حكومة إقليم كردستان، مسرور بارزاني، بياناً أشار فيه إلى أن “الأوضاع الصعبة التي يعيشها الإقليم خارجة عن إرادة ورغبة حكومته”، محذِّراً من محاولات “البعض” استخدام قُوت الناس لمصلحته الشخصية، ومُنبهاً إلى أن حكومته تواصل المفاوضات مع بغداد “للحصول على الحقوق والمستحقات المالية الخاصة بالإقليم”. كما أصدر رئيس الجمهورية، برهم صالح، القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني، بياناً حض فيه على ضرورة احترام حق التظاهر السلمي، وعبَّر عن قلقه من العنف الذي أودى بحياة عدد من المواطنين والقوات الأمنية، وضرورة العمل للوصول إلى “حلول جذرية لمشكلة الرواتب”.
العودة إلى بغداد
وفي محاولة منها لتدارك الأزمة، قررت الأحزاب المشتركة في الحكومة الكردية، “الاتحاد” و”الديمقراطي” و”التغيير”، إرسال وفد تفاوضي برئاسة قوباد طالباني نائب رئيس وزراء الإقليم والقيادي في حزب الاتحادي الوطني، إلى العاصمة العراقية لبدء المفاوضات مع الحكومة المركزية حول الموازنة المالية لعام 2021 ومستحقات الإقليم.
وتأتي هذه المفاوضات بعد أن أقر مجلس النواب في 12 نوفمبر الماضي قانون العجز المالي رغم انسحاب الكتل الكردية واعتراضها على شروط القانون التي تحدد حصة الإقليم من إجمالي الإنفاق الفعلي بشرط التزام الإقليم بدفع مستحقاته من الإيرادات غير النفطية، والإيرادات النفطية وبالكميات التي تحددها شركة تسويق النفط العراقية (سومو) حصرياً، وفي حالة عدم التزام الإقليم لن توفر بغداد نفقات الإقليم.
وحتى الآن لم يحقق الوفد الكردي برئاسة طالباني نتائج نهائية في المفاوضات مع الحكومة العراقية والكتل البرلمانية بشأن موازنة الإقليم، وإشراك الحكومة الكردية بالتزامات قانون الاقتراض.
وكان قوباد طالباني قد أكد في بيان يوم 28 ديسمبر الماضي أن “حكومة إقليم كردستان ستلتزم بواجباتها، سواء في عائدات النفط أو الواردات غير النفطية، على النحو الذي اتفقنا مع الحكومة الاتحادية على مشروع قانون ميزانية 2021”. وكشفت النائب عن كتلة “التغيير” علي حمه صالح، في منشور على موقع “فيسبوك”، أن “نائب رئيس حكومة الإقليم أكد للبرلمانيين 6 مرات التزام الإقليم بتسليم 250 ألف برميل نفط للحكومة الاتحادية بعد المصادقة على موازنة 2021”.
وصرّح مساعد رئيس حكومة الإقليم للشؤون المالية بأن الإقليم مستعد لتسليم ملف النفط إلى بغداد – الذي يبلغ 250 ألف برميل نفط- ونصف واردات المنافذ الحدودية، مقابل تسليم رواتب الموظفين، والمستحقات المتراكمة لشركات النفط، على أن تتحمل بغداد أجور نقل النفط عبر أنابيب الإقليم النفطية إلى تركيا التي تبلغ 350 ألف برميل من كركوك ومدن الإقليم. كما أضاف أن بغداد والإقليم يختلفان حول عدد الموظفين، حيث ترى بغداد أن عدد الموظفين في الإقليم يبلغ 682 ألف موظف لكن الإقليم يؤكد أن عدد الموظفين يبلغ مليون و252 ألف موظف.
وقد أعلن مقرر اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي، أحمد الصفار، عن توصل الحكومة الاتحادية إلى اتفاق مبدئي مع حكومة الإقليم بنفس صيغة الاتفاق الذي أُبرم في عهد عادل عبد المهدي والحكومة الحالية. وأضافت عضو مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي، دانا جزا، أن حصة الإقليم من موازنة 2021 ستبلغ 12.67%.
غير أن النائب الكردي هوشيار عبد الله عبّر عن قناعته بفشل المفاوضات بين الوفد الكردي والحكومة العراقية، وقال في تصريحات متلفزة “لا يوجد دليل حتى الآن على وجود اتفاق ولم يتم إرسال أي أموال إلى أربيل، كما أن الأطراف الحكومية في بغداد لم تعلن عن أي تقدم في المفاوضات وما يتم تداوله فقط تصريحات الجانب الكردي”، ورهن عبد الله نجاح مهمة الوفد الكردي بعد دخول موازنة عام 2021 حيز التنفيذ، وبدء تمويل الحكومة المركزية لأربيل.
وكان رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني قد الْتقى الوفد الكردي المفاوض مبيناً أن حكومته لن تتنازل عن حقوقها ومستحقاتها المالية والدستورية، وأشار إلى أن الإقليم مازال بانتظار مستحقاته للأشهر من مايو إلى أكتوبر، وصرف رواتب ومستحقات البيشمركة.
وبالفعل لم تُصدر حكومة الكاظمي أي بيان رسمي بشأن المفاوضات مع الجانب الكردي، وما صدر ما هو إلا تصريحات من نواب البرلمان العراقي عن ضرورة التزام أربيل بدفع أموال النفط وباقي المستحقات الاتحادية إلى الخزانة العامة. وعلى ما يبدو فإن وفد طالباني يحتاج إلى موافقة باقي القيادات في أربيل وبرلمان كردستان، فالحكومة في بغداد تحتاج إلى ضمانات حقيقية للشروع في تمويل الإقليم ودفع مستحقات الموظفين فيه، بعد أن فشلت كل الاتفاقات السابقة بسبب عجز أربيل عن سداد ما بذمتها إلى بغداد، لذا أعلن البرلمان الكردي أنه بانتظار مناقشة نتائج المفاوضات مع قوباد طالباني، وربما عقد جولة مفاوضات جديدة سيجريها رئيس الإقليم نيجرفان بارزاني في يناير 2021.
المواقف الرسمية في العاصمة
ينطلق رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في تعامله مع الإقليم من قناعة ثابتة، مفادها أن أي اتفاق غير عادل ولا ينسجم مع الدستور سيؤدي إلى إعاقة مشروع الإصلاح الاقتصادي الذي طرحه قبل أسابيع تحت اسم “الورقة البيضاء”، كما سيتسبب بأزمات سياسية مع نواب المحافظات النفطية، خصوصاً البصرة، الذين يطالبون بمعاملة نفطية ومالية مماثلة لأربيل، لذا فإن شروط حكومته واضحة وهي تسليم النفط وواردات المنافذ الحدودية مقابل تسوية ملفي الرواتب وحصة الإقليم من الموازنة.
أما باقي الأطراف السياسية المشتركة في الحكومة، فإنها حاولت اتخاذ المواقف التي تتناسب مع تحالفاتها الحالية والمستقبلية، فالكتل السنية على سبيل المثال ركزت على ضرورة “الحوار بين بغداد وأربيل” وتدارك الأزمة التي يمر بها سكان الإقليم لقناعتها بأن الانحياز لصالح الأحد الطرفين سيُضر بمصالحها المتشابكة مع الطرفين. وعلى العكس منها، حاولت الكتل الشيعية المتشددة استغلال الاحتجاجات الكردية للضغط على أربيل وإخضاعها لشروط بغداد، من خلال مساندة احتجاجات المتظاهرين الأكراد، وهي المتهمة بالأساس بقمع الاحتجاجات الشيعية في وسط وجنوب البلاد، ومن ذلك مثلاً دعوة زعيم ميليشيا “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي في تغريدة على موقع “تويتر” إلى “دعم المطاليب الحقة والتظاهرات السلمية ورفض الحرق والتخريب كذلك موقفنا مع تظاهرات أبناء شعبنا في کردستان العراق الحبيب، ونكرر مقترحنا السابق في توطين رواتب موظفي إقليم كردستان وأن تصرف بشكل مباشر من الحكومة المركزية وإبعادها عن التجاذبات السياسية والفساد المالي”.
التداعيات المتوقعة للأزمة في الإقليم
على مستوى إقليم كردستان، يمكن أن يصب استمرار الأزمة الاقتصادية في الإقليم والاحتجاجات إذا ما اندلعت من جديد نتيجة لفشل المفاوضات مع بغداد، في مصلحة أحزاب السليمانية، وتحديداً حزب “الاتحاد الوطني الكردستاني” الذي يلوّح منذ شهور بإمكانية الانفصال عن أربيل والانفراد بإقليم إداري مستقل بسبب استمرار الخلافات حول تقاسم السلطات وفشل توحيد الإدارات منذ عام 2003 وحتى اليوم، وانفراد حزب بارزاني بملف المفاوضات مع بغداد وبملف تصدير النفط إلى تركيا.
وهنا قد يستجيب مسعود بارزاني لضغوط “الاتحاد” ويقبل بتسليم نفط الإقليم إلى بغداد، وإنهاء أزمة الرواتب وربما تقديم تنازلات أخرى في الملفات الإدارية والسياسية، أما في حال رفضت أربيل شروط بغداد، فقد يتجه “الاتحاد” إلى إبرام اتفاق منفصل مع بغداد حول دفع رواتب موظفي المحافظتين اللتين يسيطر عليهما.
ورغم أن موضوع الانفصال بين السليمانية وأربيل ليس بالأمر السهل، فإن الأزمة الراهنة قد تكون هي البداية، سيما أن الانتخابات العامة الماضية عام 2018 أظهرت عدم تمسك بارزاني بالاتفاقات السياسية مع “الاتحاد” حينما أراد الحصول على رئاسة الجمهورية لحزبه، إضافة إلى رئاستي الوزراء والإقليم في أربيل، وقد يخطط حزب الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني، الانسحابَ بالفعل من الاتفاقات مع أربيل والانفصال عن الإقليم، والاستعداد للانتخابات المقبلة وفق قانون الانتخابات “المناطقي” الجديد.
وفي المقابل يعتقد حزب بارزاني أن تقسيم الإقليم هو هدف إيران، التي يتهمها بأنها تقف وراء الاحتجاجات الأخيرة، إذ يرى القيادي في الحزب محمد زنكنة أن طهران تخشى من نفوذ الحزب “الديمقراطي” المتزايد في السليمانية، وتريد بقاء السيطرة في المحافظة لحزب “الاتحاد” فقط. أما الأحزاب الكردية المعارضة، مثل “الجيل الجديد”، فإنها ستحاول الاستفادة من التظاهرات الشعبية لإثبات صحة الادعاءات والتهم التي تُكيلها باستمرار إلى أحزاب السلطة بسوء الإدارة والفساد، وستطالب بالمزيد من التغيير السياسي، لكنها قد تتعرض للقمع من قبل حزب “الاتحاد” في حال تراجعت الاحتجاجات بتهم زعزعة الأمن الداخلي، وبالفعل قامت قوات الأمن (الأسايش) التابعة لحزب “الاتحاد” باقتحام قناة “nrt” المملوكة لزعيم “الجيل الجديد” ساشوار عبد الواحد بسبب نقلها لأحداث العنف التي رافقت التظاهرات.
الاستنتاجات
كانت الاحتجاجات الشعبية في مدن كردستان العراق متوقعة، وهي امتداد للاحتجاجات التي حصلت في الأعوام القليلة الماضية، خصوصاً في عامي 2015 و2017، ذلك أنها تعكس الواقع الاقتصادي المتردي الذي يعشيه الإقليم، والظروف الصعبة التي يعانيها مواطنو الإقليم، بسبب تأخر صرف الرواتب واستمرار سياسة العناد التي تمارسها أربيل مع بغداد، إلى أن وصلت الآن إلى حافة الهاوية.