حرية – (14/8/2024)
الموضوع شائك، فقد خسر العرب زمناً ثميناً بسبب وعي كاذب استقر في عقول النخب أو في كثير منها، ومع الأسف هذا الوعي الكاذب لا يزال مؤثراً إلى اليوم وعنوانه “المزايدة الثورية”. ذاك ليس كلاماً مرسلاً، بل حقيقة مشاهدة. فقد قدمت لنا محطة “العربية” التلفزيونية سلسلة من اللقاءات قام بها طاهر بركة مع كريم التميمي الذي كان وزيراً بعثياً في العراق، تثبت مما قال وآخرون، وهو أمر معروف في تاريخ العرب المعاصر، أن الشعار يُرفع للمغفلين والسّذج، أما ما يبقى في الأرض فهو عناق السلطة بأي ثمن!
القصة معروفة، وهي توقيع أحمد حسن البكر اتفاقاً مع حافظ الأسد على وحدة البلدين، العراق وسوريا، على أن تستكمل الخطوات في وقت لاحق، ووصل بعد ذلك صدام حسين إلى الحكم في العراق، والحكم عزيز والتفريط به غباء، فقرر أن ينهي ذلك الاتفاق بطريقة دراماتيكية، فدان، كخونة، كل من سار من “الرفاق” في طريق فكرة الوحدة وحاكمهم من خلال دموعه (دموع التماسيح) في قاعدة الخلد المشهورة، وأطلق على صدورهم الرصاص، أيضاً وهو يبكي!
نحن الآن أمام حزب صدع العالم المحيط بمقولة “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” وكل أدبيات “البعث” التي هي في الغالب أدبيات هزيلة منقولة من الفكر القومي الشوفيني الغربي بركاكة، ككتابات ميشال عفلق وآخرين كانت تشدد على “أمة عربية واحدة”. ما يهم أن تلك الشعارات ضرب بها عرض الحائط، إذ تناقضت مع السلطة، السلطة “الثورية” هي الأهم في كل مكان!
طوال فترة الثلاثة أرباع القرن الماضي طغت مصطلحات “الثورة” و”الثورية” و”قيادة الثورة” إلى آخر المصطلحات التي تحمل ذلك الاسم، على معظم الساحة العربية السياسية، كلها مفرغة من محتواها، ولم يبرز مصطلح “الإصلاح”، وهو الأحق، على سطح العمل السياسي العربي حتى الساعة. الإصلاح هو العناية بشؤون الناس وتنمية المجتمع وسيادة القانون والأمن والسلام، أما الثورة فهي ترخيص بالعزل والحرمان والقتل باسم الوطن وفي بعض الأوقات باسم الرب!
لقد قادت تلك الشعارات إلى دمار، فهي تجاوزت الواقع إلى مكان خيالي مستحيل تحقيقه.
تم في خضم الفورة الثورية اندماج مصر وسوريا، وما لبثت الوحدة أن انفرطت، لأن الدولة الوطنية، وهي حقيقة، تم تجاوزها قسراً، وفرط اتفاق الرأسين البعثي، للسبب نفسه، ودخل اليمن في أزمات أيضاً بسبب ارتباط الجنوب بذيل الشمال من جديد تجاوزاً للدولة الوطنية، وهي الحقيقة الملموسة. ليس ذلك فقط، بل انفرطت كل الاتفاقات الوحدوية في بلدان الشمال العربي الأفريقي واحدة بعد أخرى، وحل محلها مع الأسف، ليس الوفاق، بل العداء. حتى في لبنان انتفض معظم الشعب اللبناني ضد وجود “الإخوة الأعداء” السوريين!
ما تقدم ليس تأريخاً، بل إن كثيراً منه معيوش، فها هي الثورة الإيرانية تمد سلطتها إلى العراق ولبنان وسوريا واليمن وتحاول في أماكن أخرى تحت شعار ليس بعيداً عن “أمة واحدة”، وهذه المرة “ثورة إسلامية واحدة”، وهو من جديد شعار يشيع وعياً كاذباً تنقضه الوقائع.
فتح شعار “إسلامية واحدة” أو بمصطلح آخر “وحدة الساحات” وتم تشجيع “حماس” على تجاوز النصيحة الذهبية وهي “أنت فقط تربح الحرب عندما تتجنبها”، فحصل ما حصل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) وأدى إلى مقتلة فظيعة ومأساة إنسانية من جانب عدو متوحش.
في الحقيقة أن إيران اتبعت، من دون أن يعلم الجانب التابع لها من العرب، قاعدة “تربح الحرب عندما تتجنبها” وتركت جثث القتلى في كل مكان على أرض العرب.
لقد صدق البسطاء من متخذي قرار الحرب “وحدة الساحات” كما صدق من قبلهم كثير كاسح من السذج “أمة عربية واحدة” أن الدولة الراعية سوف تدخل الحرب معهم، وتبين أنها تطبق “اذهب أنت وربك فحاربا” نحن هنا ننتظر الفوائد فقط!
مرحلة الثورة تشبعت اليوم، وكل من يرفع شعارها العابر للأوطان هو بصريح العبارة خائن أو على الأقل مغرر به وصاحب وعي كاذب. من هنا فإن كل شعار في منطقتنا يتجاوز حدود الوطني هو عمل خياني بامتياز، لأنه يضحي بمصالح أهله في سبيل مصالح أخرى خارج الحدود.
مما تقدم يبدو أن شعار الإصلاح هو الأقرب إلى المصالح الوطنية، وهو شعار لم يرفع وليس له مريدون كثر، أما نتائج شعارات الثورة البالغة الوضوح أمام أعيننا، فقد خربت الأوطان، من عراق وسوريا “البعث”، إلى ليبيا القذافي، إلى سودان البشير، إلي يمن الحوثي، إلى لبنان والحزب التابع. كلها من دون استثناء خلفت مصائب إنسانية واقتصادية وسياسية بعضها يحتاج إلى عقود لإصلاحه!
ولو نظرنا إلى الخريطة العربية، شرقها وغربها، لوجدنا أن من أصابتهم لوثة الثورة تدهورت عملتهم وزاد القتل والنفي، وتراجع اقتصادهم وأصبح الإنسان لا قيمة له، في وقت أن الدول التي تم فيها إصلاح نسبي تفادت تلك الكوارث.
مطلب الإصلاح هو ما يجب أن يُرفع كشعار، لأنه الأصلح للشعوب والأفضل للسلام الاجتماعي.